[التكبر بسبب العلم أو العبادة]
أما العلم: فينظر الرجل إلى الناس وكأنهم بهائم، ويقول مثلاً: أنا بخاري العصر وشافعي الزمان، ودرست على فلان وفلان من الشيوخ، أما غيري فعلى من درسوا؟ فيتطاول على عباد الله بما عنده من العلم، وينظر إلى الناس أن له فضلاً عليهم، وأنه فوقهم وهم تحته.
يقول محمد بن كعب: إن للعلم طغياناً أشد من طغيان المال، ويطغى الإنسان بالعلم ويتكبر لسببين: السبب الأول: أن يتعلم علوماً غير نافعة هي إلى الصناعات أقرب منها إلى العلم، فلا تورثه خشية الله تبارك وتعالى، ولا تذكره بنعم الله عز وجل عليه، ولا تقربه من الدار الآخرة، وهذه العلوم كعلم الجبال وعلم المنطق وغيرهما.
السبب الثاني: أن يكون في نفسه خبث وفي طويته شر، والعلم كما قال وهب: كالغيث ينزل على الأشجار فتمتد إليه عروقها، فكل بقدر طعمه، فمن كان مراً زاده مرارة، ومن كان حلواً زاده أريجاً.
ولذلك كان مالك بن دينار يقول: يا أصحاب السورة! ويا أصحاب السورتين! ماذا غرس القرآن في قلوبكم؟ إن القرآن ربيع قلب المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض، إن الغيث قد ينزل على الحبة في الحش، وما يمنعه نتن موضعها من أن تزهر وتثمر وتربو، فماذا غرس القرآن في قلوبكم؟ ورجل آخر يتطاول على الناس بعلمه ويقول: إني أسهرت ليلي وأظمأت نهاري في تحصيل العلوم الشرعية ولا يلتفت إلي أحد.
وأما العباد فيتطاول الرجل على الناس بعبادته، كأن ينظر إليهم وكأنهم هلكى وهو الناجي فقط، فإذا ما رآهم عبس بوجهه، وينظر إليهم وكأنه في الأعلى وهم في الأسفل، فهذا الرجل فعله يخالف فعل الصالحين.
كان عطاء السلمي إذا غلا السعر أمسك بطنه ودار وكأنه امرأة قد أتاها المخاض ويقول: كل هذا بسبب عطاء، لو مات عطاء لاستراح الناس.
وقف بكر بن عبد الله المزني على عرفة فقال: اللهم لا تردهم من أجلي، أي: لا ترد هذا الجمع خائباً بسبب ذنوبي.
ويقول الآخر: ما أحلى هذا الجمع لولا أنني فيهم.
وقال الإمام مالك بن دينار: والله لو وقف رجل على باب المسجد ونادى: ليقم شر الناس، لقام مالك بن دينار.
وقال أحد الصالحين: ذلي عطل ذل اليهود.
وقال أبو سليمان الداراني: والله لا يستطيع أحد أن يضعني أكثر من وضعي لنفسي، فإني أعلم بمنزلتي.
والتواضع كما قال الحسن البصري: ألا ترى لك فضلاً على أحد من الناس، فإذا رأيت من يصغرك بالسن قلت: والله لقد سبقته إلى المعصية، وإذا رأيت رجلاً كهلاً تقول: والله لقد سبقني إلى الإسلام وسبقني للطاعة، ومن ظن أنه متواضع فقد حاز الكبر بحذافيره؛ لأنه يظن أن له قدراً.
وكان مالك بن دينار يقول: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف! ويقول يونس بن عبيد: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل.
ويقول الحسن البصري: صاحبت أقواماً كنت بجانبهم كاللص.
فالرجل قد يتطاول على الناس بعبادته ويقول: والله لقد سهرت، وأنا أقوم الليل وأصوم النهار، أما فلان فغفر الله له ثم يغمزه غمزاً خفيفاً، أو ينظر إلى الناس وكأنه المتهجد الوحيد الذي عرف غور العبادة وغيره مشتغل بالعلوم فقط، فيقول: دعهم وعلمهم فهذا كبر خطير، وكأنه ينادي على الناس: أنا العابد، أنا العالم الوحيد، فمن ظن أن الناس هلكى فهو أهلكهم.