وانظر إلى وجه هذا وإلى وجه هذا، وإلى عزة هذا وذل هذا، فالأول له العز كل العز فشيخ الإسلام ابن تيمية عندما أتى إليه السلطان محمد بن قلاوون يقول: إنك تعمل مع ملك التتر -أي: المغول- لنزع ملكي، قال: ملكك وملك المغول لا يساوي عندي فلساً.
ويقول: أنا جنتي وبستاني في صدري أينما ذهبت فهي معي، إن معي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني عن بلدي فنفيي سياحة، وإن سجنوني فأنا في خلوة مع ربي.
إن المحبوس من حبس عن ربه وإن الأسير من أسره هواه.
ولما منعوا سلطان العلماء أن يخطب في دمشق حتى يقبل يد سلطان دمشق الصالح إسماعيل قال: يا سبحان الله! أيها الناس! أنتم في واد وأنا في واد آخر، والله ما أرضى لسلطانكم أن يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل أنا يده.
فانظر إلى عز هؤلاء حتى وهم في سجنهم.
وشيخ الإسلام ابن تيمية لما مات دخل عليه يغسله الحافظ المزي ومعه أربعة من حفاظ الحديث، وما استطاع ساجنوه أن يخرجوا في يوم موته إلى الشوارع أبداً؛ خوفاً من بطش العامة بهم.
فانظر إلى سجين يسجن ساجنيه وهو ميت.
فأي عز بعد هذا.
وهذا الفراء فقد كان ابنا المأمون يأتيان له بنعلين ليلبسهما.
ولما حبسوا عز الدين بن عبد السلام أراد الصالح وهو يكلم ملوك الفرنج أن يتودد إليهم، فقال: أتدرون من هذا الذي يقرأ في ظلمات الليل في خيمته القرآن؟ قالوا: من؟ قال: هذا أكبر قسيسي المسلمين -أي: أكبر شيخ عند المسلمين- حبسته من أجلكم؛ لأنه حرم بيع السلاح لكم.
فقال أكبر ملوك الفرنجة: لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه ولشربنا مرقته، أي: لجعلنا غسيل رجليه مرقاً وشربناه؛ لأنه رجل مبارك.