[حال الصالحين مع قيام الليل]
فهؤلاء أخفوا لله عز وجل العمل في ظلمات الليالي فملأ الله قلوبهم إخلاصاً ويقيناً، قال محمد بن أعين عن عبد الله بن المبارك: كنت مصاحباً له في أسفاره، فبينا نحن في أرض الروم ذات ليلة إذ أوهمني أنه ينام، فأوهمته أني أريد أن أنام أيضاً، فلما ظن أني قد نمت قام إلى صلاته، فما زال يصلي إلى الفجر، فلما كان عند الفجر أيقظني وقال: يا محمد! الصبح، فقلت له: إني لم أنم، فلما علم أني قد علمت بحاله، ظهر الغضب في وجهه، ولم يزل مجافياً لي إلى أن مات رحمه الله.
وأيوب السختياني كان يصلي معظم الليل، فإذا كان قبل الفجر أظهر الصوت والصياح، وكأنه قد قام من ساعته تلك.
ومنصور بن المعتمر: كان إذا أتى لصلاة الصبح أظهر النشاط لإخوانه، وكأنه لم يقم الليل وقد قام الليل كله أو معظمه.
ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة عند الله صلاة داود، وأفضل الصيام عند الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام نصف الليل، ثم يقوم ثلثه، ثم ينام سدسه)، وهذا الأكمل والأفضل في صلاة الليل: أن تنام نصف الليل، ثم تقوم الثلث، ثم تنام السدس قبل صلاة الفجر، وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ألفاه السحر الأعلى إلا نائماً في بيتي)، وتقول أيضاً كما رواه البخاري: (كان يقوم إذا سمع الصارخ: الديك)، والثلث الأخير من الليل هو وقت التنزل الإلهي.
وكان نبي الله داود عليه الصلاة والسلام ينام قبيل الفجر -السدس الأخير من الليل-؛ لأن الرجل إذا صلى طيلة الليل، وخرج إلى الناس في الصباح علت وجهه صفرة القيام، فعلم الناس بحاله، وأما إذا نام قبيل الفجر قليلاً فإن النوم يذهب صفرة الوجه، ويكون هذا أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء.
فصلاة الليل مدرسة الإخلاص، وباب التزكية الأعظم، فمن كان لهم قدر من الليل مع مولاهم فلابد أن تزكى نفوسهم وجوارحهم.
والربيع بن خثيم رحمه الله تلميذ عبد الله بن مسعود قالت له ابنته يوماً: يا أبت! ما لي أرى الناس ينامون ولا تنام؟ فيقول لها: إن أباك يخشى البيات، أي: يخشى هجوم عذاب الله في الليل.
وقالت له أمه: يا بني! والله لو علم أهل القتيل ما تلاقي بسبب قتيلهم لرحموك من كثرة البكاء، فيقول: قتلت أعز الأنفس عندي، قتلت نفسي بالمعاصي.
والربيع بن خثيم هذا الأواب المتهجد اشترى فرساً بثلاثين ألف درهم ليغزو عليها، وذهب غلامه يسار ليحتش وقام هو إلى صلاته من الليل، فلما أتى الغلام لم يجد الفرس، فقال: يا سيدي أين الفرس؟ قال: سرقت، قال: سرقت وأنت تنظر إليها؟ قال: ما كان شيء يشغلني عن الصلاة، ثم رفع يده إلى السماء وقال: اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنياً فاهده، وإن كان فقيراً فاغنه.
فدعا لسارقه ولظالمه بأن يهده الله إلى الجنة.
لا تعرضن لذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد وقيام الليل عنوان لعلو الهمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عجب ربك من رجلين: رجل ثار -يعني: نهض بهمة- عن لحافه ووطائه من بين حبه وأهله، ولو شاء أن يرقد لرقد)، فهذا ممن يباهي الله تبارك وتعالى به الملائكة، ويقول: (عبدي يذر شهوته لأجلي، أشهدكم أني قد غفرت له).
وأبو مسلم الخولاني عبد الله بن ثوب كان له سوط يعلقه في المسجد، فإذا كسل عن القيام ضرب رجله بالسوط ويقول لها: قومي يا مأوى كل سوء، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليه، والله لأزاحمنهم عليه حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالاً.
إنما قالوا التهجد فيه أسرار عجيبة في فؤاد المتعبد طعم أذواق غريبة وإذا طال التهجد هبت الريح الرطيبة وأذان من بلال ادخلوها آمنينا فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعينا قم حبيبي قم حبيبي قم فإن الديك صاح والثريا للمغيبِ أوشكت والصبح لاح والكسالى في عقال أصبحوا متخبطين فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعين عقد الشيطان عقداً ثم في الآذان بالا ثم قال ارقد وشد فعليك الليل طالا فاغسل الماعون عدًّا من ولوغ الكلب حالا ثم أطلق للشكال أطلق الله اليمين فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعين والجهاد في الإسلام يسقى بدمع التهجد، وما عرف الإسلام رجاله إلا كذلك: في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الشجعان من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح أي: من خان الصلاة ولم يكن له قسط منها في الليل، خان الجهاد.
وقد تناوب سيدنا عباد بن بشر رضي الله عنه في غزوة (ذات الرقاع) هو وعمار بن ياسر رضي الله عنه في حراسة جيش المسلمين، وكانت النوبة على عباد بن بشر، وكان المسلمون قد أصابوا دماً لأحد المشركين، فأقسم ألا يمس جنبه الأرض حتى يصيب من المسلمين مقتلاً.
فأقبل عباد على صلاة الليل، وأتى الرجل إلى قرب من معسكر المسلمين فرأى عباداً قائماً فضربه بالسهم من الخلف، فنزع السهم وأقبل على صلاته، فضربه بالسهم الثاني فنزعه وأقبل على صلاته، ثم ضربه بالسهم الثالث، فلما استيقظ عمار ولى الرجل هارباً، فعاتب عمار رضي الله عنه عباد بن بشر رضي الله عنه وقال له: يرحمك الله! ما الذي منعك من أن توقظني، قال: إني كنت أقرأ سورة فكرهت أن أقطعها.
وتأخرت السيدة عائشة رضي الله عنها ذات ليلة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: (ما حبسك عنا يا عائشة! قالت: رجل حسن الصوت يتهجد بكلام الله عز وجل، فخرج فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة يصلي وكان حسن القراءة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك).
ولما كان يوم اليمامة وانكشف صف المسلمين أمسك سالم براية المسلمين، فقالوا: يا سالم إنا نخشى أن نؤتى من قبلك، قال: بئس حامل القرآن إذاً أنا، وأمسك بيمينه فقطعت يمينه، ثم أمسك الراية بيساره، فقطعت يساره، فضم اللواء إلى عضديه وهو يتلو قول الله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:١٤٦].
وأسلمت هند زوج أبي سفيان في صبيحة يوم الفتح، وقد حرشت قومها على قتل زوجها أبي سفيان في يوم الفتح، وقالت: اقتلوا هذا الخريت الذي يقول: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، فقال: قد كنت أراك تكرهين الرجل فما الذي أدخلك في الإسلام؟ قالت: والله! ما رأيت الله عبد قبل اليوم في هذا البيت، يعني: ما رأيت الله عبد إلا في ليلة الفتح، لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يراوحون بين ركبهم وجباههم تهجداً لله عز وجل.
فنور القيام أثر في قلب آكلة الأكباد، حتى أسلمت ودخلت في دين الله عز وجل.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من تعارّ من الليل -أي: من استيقظ من الليل- فقال: الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإذا دعا -أي: قال: اللهم اغفر لي! - استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته).
قال الإمام ابن المنير: وقبول الصلاة حد زائد على صحة الصلاة.
وصلاة الليل لها فضل على صلاة النهار، فهي مقبولة بنص هذا الحديث.
وسيدنا الحسن كان يقول: والله! لو أعلم أن الله قبل مني سجدة واحدة لفرحت بذلك، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:٢٧]، فما ظنك إذا كنت تقوم من الليل وأنت تعلم أن أي صلاة تصليها لله عز وجل بالليل مقبولة عند الله تبارك وتعالى.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن عمر: (إن عبد الله رجل صالح لو كان يصلي من الليل).
قال: سالم بن عبد الله بن عمر: فكان عبد الله لا ينام بعد ذلك من الليل إلا قليلاً.
وفي رواية: (إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل).
وقام النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فزعاً وقال: (سبحان الله! ماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات -يعني: أمهات المؤمنين للصلاة-؟ فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة).
وروى الإمام البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه ليلاً، وكنت وفاطمة نائمين، فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله! أنفسنا بيد الله إذا شاء أن يبعثنا ابتعثنا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً وجهه عنا ويضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:٥٤]).
وما أيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ابنته وابن عمه في الليل الذي جعله الله سكناً للناس إلا لعلم النبي صلى الله عليه وسلم بعظم صلاة الليل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحببت من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس)، والناس اليوم يظنون أن الشرف في المال، فلو ضاع هذا المال ضاع الشرف.