الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فنتكلم اليوم عن المرابطة الخامسة وهي: مجاهدة النفس، وقد تشق على الشخص ولكنها طريق فريد لشرف النفس وعلوها، وقد يطول بك الأمر فاصبر، وسبيلك في ذلك أن تسمع ما ورد في الأخبار من فضل مجاهدة النفس، ومن أنفع أسباب العلاج أن تطلب صحبة عبد من عباد الله، مجتهد في العبادة، فتلاحظ أقواله وتقتدي به.
قال عبد الله بن المبارك: كنت كلما قسا قلبي نظرت إلى وجه الفضيل فأجد فيه الحزن؛ فأمقت نفسي.
وكان بعضهم يقول: كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى أحوال محمد بن واسع وإلى اجتهاده، فعملت على ذلك أسبوعاً.
إلا أن هذا العلاج قد أصبح عزيزاً؛ إذ قد فقد في هذا الزمان من يجتهد في العبادة اجتهاد الأولين، فينبغي أن يعدل من المشاهدة إلى السماع، فلا شيء أنفع من سماع أحوال الصالحين، ومن مطالعة أخبارهم، وما كانوا فيه من الجهد الجهيد، وقد انقضى تعبهم، وبقي ثوابهم ونعيمهم أبد الآباد لا ينقطع، فما أعظم ملكهم! وما أشد حسرة من لا يقتدي بهم! فيمتع نفسه أياماً قلائل بشهوات مكدرة، ثم يأتيه الموت ويحال بينه وبين كل ما يشتهيه أبد الآباد نعوذ بالله من ذلك! قال أبو حنيفة رحمه الله: الحكايات عن الصالحين أحب إلي من كثير من الفقه؛ لأنها أخلاق القوم وآدابهم.
قيل لـ فتح الموصلي: بالله عليك يا فتح كم بكيت الدم؟ قال: لولا أنك سألتني بالله ما أخبرتك، بكيت الدموع على تخلفي عن واجب حق الله تعالى، وبكيت الدم على الدموع؛ لئلا يكون ما صحت لي الدموع: والعين لها دم ودمع سح ذا يكتب شجوه وهذا يمحو كان الثوري رحمه الله يقول: عند الصباح يحمد القوم السرى وعند الممات يحمد القوم التقى فهكذا كانت سيرة السلف الصالحين في مجاهدة النفس وفي مراقبتها، فمهما تمردت نفسك عليك، وامتنعت من المواظبة على العبادة فطالع أحوال هؤلاء، ولو قدرت على مشاهدة من يقتدي بهم فهو أنفع، وأبعث على الاقتداء، فليس الخبر كالمعاينة، وإذا عجزت عن هذا فلا تغفل عن سماع أحوال هؤلاء، فإن لم تكن إبلاً فمعزا، وخير نفسك بين الاقتداء بهم والكون في زمرتهم وغمارهم وهم العقلاء والحكماء وذوو البصائر في دين الله، وبين الاقتداء بالجهلة الغافلين من أهل عصرك، ولا ترض لها أن تنخرط في سلك الحمقى وتقنع بالتشبه بالأغبياء، وتؤثر مخالفة العقلاء، فإن حدثتك نفسك بأن هؤلاء رجال أقوياء لا يطاق الاقتداء بهم فطالع أحوال النساء المجتهدات، وقل لها: يا نفس! ألا تستنكفي أن تكوني أقل من امرأة؟! فأخسس برجل يقصر عن امرأة في أمر دينها ودنياها: كذاك الفخر يا همم الرجال تعالي فانظري كيف التعالي أتسبقك وأنت رجل نسوة أما لك بالرجال أسوة كانت جارية خالد بن الوراق شديدة الاجتهاد في الطاعة والعبادة، فأخبرها خالد برفق الله وقبوله ليسير العمل؛ فبكت ثم قالت: إني لأعلم أن في كرم الله مستغاثاً لكل مذنب، وإني لأؤمل من الله آمالاً لو حملتها الجبال لعجزت عن حملها كما عجزت عن حمل الأمانة، ولكن قل لي يا خالد: كيف لي بحسرة السباق؟ قلت لها: وما حسرة السباق؟ قالت: غداة الحشر، إذا ركب الأبرار نجائب الأعمال، وطاروا إلى مولاهم، وخلفت مع المسيئين المذنبين، ثم قالت: وعزة سيدي! لا يسبق مقصر مجداً ولو حبا المجد حبواً، ثم قالت: يا خالد! انظر لا يقطعك عن الله قاطع، فإنه ليس بين الدارين دار يدرك فيها الخدام ما فاتهم من الخدمة مع مولاهم، فويل لمن قصر عن خدمة سيده ومعه الآمال، فهلا كانت الآمال توقظه إذا نام البطالون؟! وكانت عمرة زوجة أبي محمد حبيب العجمي توقظه لقيام الليل وتقول: قم يا سيدي، فهذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، وبين يدينا طريق طويل، وزاد قليل، وهذه قوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا.
فعليك إن كنت من المرابطين المراقبين لنفسك أن تطالع أحوال الرجال والنساء من المجتهدين؛ لينبعث نشاطك ويزيد حرصك، وإياك أن تنظر إلى أهل عصرك! فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، إياك أن تتدلى بحبل غرورها وتنخدع بتزويرها! قل لها: أرأيت لو هجم سيل جارف يغرق أهل البلد وثبتوا على مواضعهم، ولم يأخذوا حذرهم لجهلهم بحقيقة الحال، وقدرت أنت على أن تفارقيهم وتركبي في سفينة تتخلصين بها من الغرق فهل يختلج في نفسك أن المصيبة إذا عمت طابت أم تتركين موافقتهم في صنيعهم وتأخذين حذرك مما دهاك؟ فإن كنت تتركين موافقتهم خوفاً من الغرق، وعذاب الغرق لا يتمادى إلا ساعة فكيف لا تهربين من عذاب الأبد وأنت متعرضة له في كل حال، ومن أني تطيب المصيبة إذا عمت؟ ولأهل النار شغل شاغل عن الالتفات إلى العموم والخصوص، ولم يهلك الكفار إلا بموافقة أهل زمانهم، حيث قالوا:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف:٢٣]، خذ قول الله عز وجل لأهل النار:{وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}[الزخرف:٣٩]، فعليك إذا اشتغلت بمعاتبة نفسك فاستعصت ألا تترك معاتبتها وتوبيخها، وتعريفها سوء نظرها لنفسها؛ فعساها تنزجر عن طغيانها.