[جهود الشيخ ابن باز في تعلم العلم وتعليمه]
كان الشيخ ابن باز يجيد اللغة العربية الفصحى، ويشرحها ويلقيها على طلابه، وله في الفرائض والمواريث قدم، أما في الحديث فهو محدث الدهر، ويعرف الرجال.
يقول عنه الشيخ عائض القرني: سألته قبل ما يقارب أربع سنوات عن الحجاج بن أرطأه، فقال: ضعيف ومدلس، قال: فهو يحفظ آلاف الرجال في ذهنه، فإذا سألته عن الرجل أخبرك عنه، وما قيل فيه.
ويتابع كثيراً في (تهذيب التهذيب) لـ ابن حجر، وهو كتابه المفضل لديه، يقول لبعض محبيه: ربما حفظت ٨٠% من تهذيب التهذيب الذي كله أسماء رجال، والذي يتكون من ثلاثة عشر مجلداً.
يقول: ويحفظ (فتح الباري)، وقد قرأه مرات عديدة من وقت طلبه للعلم إلى الآن، وهو الذي تولى الإشراف على إخراجه وتحقيقه للناس.
هذا الكتاب الذي مكث فيه ابن حجر يؤلفه اثنتين وثلاثين سنة.
وواصل الشيخ مشواره في تعليم طلبة العلم من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، فيدرس فتح الباري، وفتاوى ابن تيمية، وبلوغ المرام، ثم يدرس الكتب الستة وشروحها، ثم يدرس شرح العقيدة الطحاوية، ويدرس تفسير ابن كثير، والبداية والنهاية، وجامع العلوم والحكم.
يقول عنه محمد المجذوب: روى عنك أهل الفضل كل فضيلة فقلنا حديث الحب ضرب من الوهم فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنا به في العلم والأدب الجم فلم أر بازاً قط قبلك شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي والباز: هو الصقر.
ويقول الشيخ عائض في مديح الشيخ عبد العزيز بن باز: قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي عفواً لك الشيخ قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كدمع الوابل السافي يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافِ مجالس اللغو ممشاهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي وأنت جالست أهل العلم فانتظمت لك المعاني ولم تولع بإرجاف بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الظل في إشراقه الصافي يكفي محياك أن القلب يعمره من حبكم ولدي أضعاف أضعاف أراك كالضوء تجري في محاجرنا فلا تراك عيون الأغلف الجافي كالشجو تملك أشواقي وتأسرها بنغمة الوحي من طه ومن قاف وثد اجتمعت في الشيخ عبد العزيز بن باز خصال ما اجتمعت في غيره.
والشيخ لم يحبس نفسه في مكتبه فقط، وإنما كان رجل عامة، وهذا نادر قل أن تجده في طبقات الرجال، فالإمام أحمد كان رجل عامة، والأوزاعي كان رجل عامة، أما سفيان الثوري فكان رجل خاصة، فكان ينتفع به وبعلمه العلماء والمحدثون فقط، أما الأوزاعي فكان كالبحر يلج إليه كل الناس وينتفعون بعلمه.
وكان أبو إسحاق الفزاري رجل عامة يختلط بعوام الناس، ويعلمهم السنن، ويؤدبهم، ويحملهم على الجادة، ويعلمهم عقيدة أهل السنة والجماعة، وكذلك كان الشيخ ابن باز، كانوا يدخلون عليه في أي وقت.
وهو الشيخ الذي ما تغدى وما تعشى مع أولاده طيلة خمس وأربعين سنة، وفي هذه الفترة كان بابه مفتوحاً لكل الناس، ومائدة الطعام في بيته يأكل منها الناس، فيستفيدون من علم الشيخ ويأكلون من أكل الشيخ.
حدثني الشيخ عمر العيد وهو دكتور في جامعة محمد بن سعود بالرياض يقول: كان الشيخ ابن باز يقترض الآلاف المؤلفة من العام إلى العام، فإذا علمت الحكومة السعودية تدفعها عنه؛ لأنها تعلم أن الشيخ كان ينفق حوالي ثلاثة آلاف ريال على بعض طلبة العلم يخصهم بالنفقة الشهرية.
يقول أحد طلبة العلم: كان الشيخ يعرفني من صوتي، فإذا غبت يرسل إلي من يسأل عن أخباري ويعطيني المال من الفترة إلى الفترة يعينني على الدنيا من غير أن يدري أحد، يقول: إنك تجد الشيخ ابن باز يجلس وسط إخوانه ووسط طلابه يختلط بهم ويعرف حاجاتهم، ويؤدبهم بمخالطته، ويستفيدون من لحظه قبل أن يستفيدوا من لفظه، وهذه غاية عظيمة.
فالشيخ وهو جالس وسط الناس يربيهم ويعلمهم ويحملهم على السنة.
وكان صدر الشيخ ابن باز يتسع للمخالف أيما اتساع، وربما تجد طالب علم متحمساً لنصرة الإسلام، فيقول عن الشيخ الكلام الجاف الذي لا يقوله طالب علم في طالب علم، ولحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة.
كان يقول للمخالفين: هذا الأمر يحتاج إلى جهاد أمة بأسرها، وينصح الطلاب المتحمسين المندفعين بالتروي وبسؤال أهل العلم، ولو أن الناس اتبعوه في هذا لوفروا على الدعوات الإسلامية في كافة الأقطار الإسلامية الكثير والكثير.
وينطبق على الشيخ أنه العالم العامل، والإمام الذهبي في السير ترجم لمائتين وخمسين يطلق عليهم لقب شيخ الإسلام، ويقول عن بعضهم: وكان سيد العلماء العاملين في وقته.
فكان الشيخ من أعبد الناس، ومن أشدهم تطبيقاً للعلم.
وأما على مآس المسلمين فتجده بكاء كالأم الشفوق أو كالأب الشفوق، فإذا سمع بمصائب المسلمين في البوسنة أو الهرسك أو كوسوفا يبكي كالطفل، وهذا يعلمه القاصي والداني عن الشيخ ابن باز، فبمجرد أن يخبر عن أحوال المسلمين تجده يبكي بكاء مراً، فهو يحس بواقع المسلمين وليس بعيداً عنهم، ويعلم واقع المسلمين في مصر، وفي الجزائر وفي غيرها من الدول.
وهذا هو الشيخ الذي دان له الجميع بالفضل.