[الصدق في العزم]
ثم هناك صدق في العزم، مثلاً: يقول رجل: أعزم لو أعطاني الله عز وجل مالاً لأتصدقن به أو سأخرج لله منه، مثلما قال سيدنا عمر: والله! لئن أتقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر الصديق، وهو صادق في عزمه هذا.
وهناك كثير من الخطباء يذكر قصة الصحابي الجليل ثعلبة بن حاطب وهذه القصة كلها كذب وحديثها لا يصح، وهي: أن ثعلبة كان يسمى حمامة المسجد، وقال: إن أعطاني الله مالاً لأتصدقن.
والله عز وجل أعطاه مالاً فلم يتصدق، والرسول سأل عنه، فقالوا: لقد غاب عن الجماعة، ولم يخرج زكاة ماله.
وهذا الكلام كله كذب لم يحصل، وإن قال به بعض الخطباء؛ لأن الرجل الذي يمتنع عن الزكاة في الدولة الإسلامية يؤخذ منه شطر ماله، فشطر ماله عزمة من عزمات ربنا كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصدق على الوفاء بالعزم بأن يعزم قبل أن يعمل الشيء، ثم يوفي بعزمه هذا، لذلك لما غاب سيدنا أنس بن النضر عن أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي غزوة بدر حز ذلك في نفسه، ثم قال: والله! لئن أشهدني الله مشهداً معهم ليرين الله ما أصنع.
أي: سيرى الله ماذا سأعمل بالكافرين، فلما كان يوم أحد واستقبل الجبل، قال له سيدنا سعد بن معاذ: إلى أين يا أبا عمرو؟! قال: إليك عني، واها لريح الجنة! إني لأشم ريحها دون أحد.
ولذلك قال أبو تراب النخشبي: إن الصادق يعطيه الله عز وجل حلاوة العمل قبل الشروع فيه، فسيدنا أنس بن النضر لم يحارب بعد وإذا به يشم رائحة الجنة.
قالوا: ثلاثة لا تخطئ الصادق: الحلاوة والملاحة والهيبة، حلاوة المنطق مثل سيدنا الحسن البصري، والملاحة مثل سيدنا وكيع بن الجراح الذي ينظر إليه الإنسان فيقول: هذا ملك كريم، والهيبة مثل سيدنا مالك بن أنس، فقد كان أمير المدينة يقول: والله! لحملي غبار العقيق على رأسي -أي: أن أحمل غبار جبل على رأسي- أهون علي من لقاء مالك.
فوالله! ما عرفت الذل إلا ببابه.
فسيدنا أنس بن النضر قال: إليك عني واها لريح الجنة! إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد، فلما تقدم إلى القتال قاتل حتى قتل، قالت أخته الربيع بنت النضر: فما عرفته إلا ببنانه، وفيه نزل قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:٢٣].
ومن الصادقين صديق الأنصار سيدنا سعد بن معاذ كما يلقبه ابن القيم يقول: إنه صديق الأنصار، فقد كانت منزلته لصدقه في الأنصار مثل منزلة أبي بكر في المهاجرين، وفي يوم بدر قال لرسول صلى الله عليه وسلم: إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك.
هذا الصديق العظيم ثاني الصديقين في هذه الأمة سيدنا سعد بن معاذ، أصيب في أكحله في غزوة من الغزوات فتناثر الدم -وأكبر شريان في جسمه هو الشريان الموجود في الكاحل- وتقاطر الدم على كل من في الخيمة، وأراد رسول الله أن يعالجه فلم يبرأ الجرح، وكذلك فعل سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر حتى بكى سيدنا رسول الله، وضعه في حجره وبكى، قال: (اللهم إني قد رضيت عن سعد، فارض عنه).
ومازال يعالجه والجرح لم يشف، انظر قوة دفع الدم من الشريان فنطق هذا الصديق بكلمة واحدة قال: اللهم إن كنت قد أبقيت رسولك لحرب يهود فأبقني، قالوا: فوالله! ما نزف الشريان وما قطر الشريان قطرة واحدة بعد ذلك، واحتبس الدم وعالجوه عند رفيدة الطبيبة الأنصارية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه كل يوم، ونزل سيدنا جبريل في يوم من الأيام على رسول الله وكان مؤتزراً بعمامته فقال: من هذا الذي مات من أمتك؟ ونزل إلى الأرض من الملائكة سبعون ألف ملك لجنازته ما نزلوا إلى الأرض قبل يومهم هذا، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع إلى رفيدة، فقالت: يا رسول الله! اشتد به الوجع فأتى قومه بنو عبد الأشهل فحملوه إلى ديارهم، فأسرع رسول الله السير لتشييعه، فقالوا: يا رسول الله! أتعبتنا جداً تقطعت شسوعنا، قال: (أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة، فلما وقف رسول الله على بابه وجد أمه تنوح)، وأغلب النساء النائحات يكن كاذبات، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن الصدق وصل من قلب سعد إلى أمه، فما ناحت عليه إلا بصدق، قالت له: ويل ابنك سعد حزامة وجداً وفارساً معداً، تبكي فروسيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل نائحة تكذب إلا أم سعد أو إلا نائحة سعد).
ولما وضعوه في قبره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عرش الرحمن اهتز لموت سعد)، لأنه بعدما حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود فرفضوا أن ينزلوا على حكم رسول الله، وقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ؛ ظناً منهم أنه سيحابيهم، فسيدنا سعد حكم فيهم وقال: حكمي فيهم أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى نساؤهم وذراريهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله! لقد حكمت فيهم يا سعد! بحكم الله من فوق سبع سماوات)، وفي رواية: (والله يا سعد! لقد حكمت فيهم بحكم الملك) أي: الحكم الذي يريده الله، وحكم الله هو الذي نطقت به يا سعد، فانظر لرجل موافق حكمه وقوله قول الله عز وجل، أي رجال أعز من هؤلاء؟! ثم بعد أن تم إعدام اليهود على ضوء سعف النخيل، وكان سيدنا علي بن أبي طالب هو الذي يتولى قطع أعناقهم، وبعد أن رجموهم ذهب سيدنا سعد ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم افجره؛ شوقاً إليك، أي: الشريان الذي كان ينزف، فانفجر الشريان؛ لأنه صدق في الدعاء وفي القول، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: (إن عرش الرحمن اهتز لموت سعد)، وفي رواية جود إسنادها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء قال: (إن عرش الرحمن اهتز فرحاً بموت سعد اشتاق إلى الله عز وجل)، ولما أخذوا في دفنه خرجت روائح المسك من قبره.