أما حياء الجناية: فهو ناشئ عن اعتراف العبد بذنبه، فيعلم العبد أنه أذنب، ويعلم أن له رباً فيستحيي منه، كحياء آدم عليه السلام بعد أن فعل المعصية وفر في الجنة، فقال له الله عز وجل: أفراراً مني يا آدم؟! قال: لا يا رب! بل حياء منك.
وروى الإمام البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس رضي الله عنه:(أن الناس إذا اجتمعوا في عرصات القيامة وهالهم الموقف، رجعوا إلى الأنبياء، فذهبوا إلى آدم أبي البشر، وقالوا له: يا آدم! أنت أبو الخلق خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة أن يسجدوا لك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا تستشفع لنا إلى ربنا، قال: فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته، فيستحيي منها ويقول: اذهبوا إلى نوح) وهكذا مع كل نبي إلى سيدنا عيسى فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته فيستحيي منها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومذهب السلف -وليس لهم مذهب سواه- جواز الصغيرة على الأنبياء، ولكن هناك فرق بينهم وبين بقية البشر، وهو أنهم إذا فعلوا الصغيرة تابوا منها في الحال وأقلعوا عنها، وكان حالهم بعد التوبة أكمل من حالهم قبل التوبة.
ومن هذا الحياء حياء الفضيل بن عياض رحمه الله، حيث قال: لو خيرت أن أبعث فأدخل الجنة وبين ألا أبعث لاخترت ألا أبعث.
فقيل لـ محمد بن أبي حاتم: هذا من الحياء؟ قال: نعم، من حيائه من الله عز وجل.
وشهد الفضيل بن عياض موقف الناس في عرفات، فأمسك بلحيته وتساقطت دموعه على وجنتيه، وهو يقول: واسوءتاه منك وإن عفوت، واخجلاه منك وإن عفوت.
والأسود بن يزيد لما احتضر وجاءه الموت، بدا عليه الجزع، قالوا: ولم الجزع؟ قال: ومن أحق مني بالجزع، ومن أولى مني في هذا الموقف بالجزع، إن العبد ليذنب الذنب فيعلم أن الله غفره له، فيستحيي من موقفه بين يدي الله تبارك وتعالى.
يا خجلة العبد من إحسان سيده يا حسرة القلب من ألطاف نعماه فكم أسأت وبالإحسان قابلني واخجلتي واحيائي حين ألقاه يا نفس كم بخفي اللطف عاملني وقد رآني على ما ليس يرضاه يا نفس كم زلة زلت بها قدمي وما أقال عثاري ثم إلاه دخل أبو حامد الخلقاني على الإمام أحمد إمام أهل السنة، فقال له: يا إمام! ما تقول في شعري؟ قال: مثل ماذا؟ قال: مثل قول القائل: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني فأمره الإمام أحمد أن يكررها، ثم أمسك بطرف ثوبه وأخذ نعله، ثم أغلق الباب، وسمع نحيبه من خلف الباب وهو يقول: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني قال الحسن البصري: لو لم يكن من البكاء إلا على هذا الموقف، لكان حرياً أن يطول بكاؤنا.