[نماذج للرحماء من الصالحين]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي أبو بكر)، ومن في الناس كـ الصديق؟ فهو الإمام العظيم الذي كان يحلب شياه اليتامى.
قال ابن الجوزي في التبصرة: لما استخلف الصديق أصبح غادياً إلى السوق، وكان يحلب للحي أغنامهم قبل الخلافة، فلما بويع قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا، فقال: بلى لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه، فهو إنسان عظيم انتهى إليه كل ما في الإسلام من حنان وعطف، قالت عائشة رضي الله عنها: أعتق أبو بكر رضي الله عنه سبعة ممن كان يعذب في الله عز وجل، منهم بلال وعامر بن فهيرة.
وفاروق الإسلام ذو الرحمة السابقة وهو القوي الذي يرهبه ويخافه الشيطان، فعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقد حتى إذا كنا بصرار إذا نار، فقال: يا زيد! إني أرى ههنا ركباً ضربهم الليل والبرد انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم؛ فإذا امرأة معها صبيان وقدر منصوبة على نار، وصبيانها يتضاغون -يبكون ويصيحون- فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء! وكره أن يقول: يا أصحاب النار، فقالت: وعليكم السلام، فقال: أأدنو، قالت: أدن بخير أو دع، فدنا منها فقال: ما بالكم؟ قالت: ضربنا الليل والبرد، قال: وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؛ قالت: الجوع، قال: أي شيء في هذا القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر، قال: أي رحمك الله! وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا، قال زيد: فأقبل علي وقال: انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عجلاً من دقيق وقبةً من شحم وقال: احمله علي فقلت: أنا أحمله عنك، قال: أنت تحمل وزري يوم القيامة؟ لا أم لك، فحملته عليه فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئاً، فجعل يقول لها: ذري علي وأنا أحرك لك، وجعل ينفخ تحت القدر ثم أنزلها، فقال: ابغيني شيئاً، فأتته بصحفة فأفرغها فيها، فجعل يقول لها: أطعميهم وأنا أصفح لهم، فلم يزل حتى شبعوا وترك عندها فضل ذلك وقام، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فيقول: قولي خيراً، إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاء الله، ثم تنحى ناحية عنها ثم استقبلها فربط مربطاً فقلت: لك شأن غير هذا، فلا يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون ثم ناموا وهدئوا، فقال: يا أسلم! إن الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحببت ألا أنصرف حتى أرى ما رأيت.
وعن أنس بن مالك قال: بينا عمر رضوان الله عليه يعس بالمدينة، إذ مر برحبة من رحابها؛ فإذا هو ببيت من شعر لم يكن بالأمس فدنا منه فسمع أنين امرأة، ورأى رجلاً قاعداً فدنا منه فسلم عليه، ثم قال: من الرجل؟ فقال: رجل من أهل البادية جئت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله، فقال: ما هذا الصوت الذي أسمعه في البيت؟ فقال: انطلق رحمك الله لحاجتك، قال: علي ذاك ما هو؟ قال: امرأة تمخض، قال: هل عندها أحد؟ قال: لا، قال: فانطلق حتى أتى منزله، فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهما: هل لك في أجر ساقه الله إليك، قالت: وما هو؟ قال: امرأة غريبة تمخض ليس عندها أحد، قالت: نعم، إن شئت، قال: فخذي ما يصلح المرأة لولادتها من الخرق والدهن وجيئيني ببرمة وشحم وحبوب، قال: فجاءت به، فقال لها: انطلقي، وحمل البرم ومشت خلفه حتى انتهى إلى البيت فقال لها: ادخلي إلى المرأة، وجاء حتى قعد إلى الرجل، فقال له: أوقد لي ناراً فأوقد تحت البرمة حتى أنضجها، وولدت المرأة فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين! بشر صاحبك بغلام، فلما سمع بأمير المؤمنين كأنه هابه فجعل يتنحى عنه، فقال له: مكانك كما أنت، فحمل البرمة ووضعها على الباب، ثم قال: أشبعيها ففعلت، ثم أخرجت البرمة فوضعتها على الباب فقام عمر رضي الله عنها فأخذها فوضعها بين يدي الرجل، فقال: كل ويحك! فإنك قد سهرت من الليل، ثم قال لامرأته: اخرجي، وقال للرجل: إذا كان غداً فائتنا نأمر لك بما يصلحك، ففعل الرجل فأجازه وأعطاه.
إنه أمير المؤمنين الذي تفتحت لأعلامه أقطار الدنيا، واستقبلت الدنيا دروسه كلها كأنها البشريات، تدك جيوشه معاقل كسرى وقيصر يؤرقه بكاء طفل ويزلزله حتى يشرق بالدموع وهو يصلي بالناس، تتولى زوجه في الهجيع الأخير من الليل أمر سيدة غريبة أدركها المخاض، يجلس هو خارج الكوخ ينضج لها الطعام، ويوقد تحت البرمة، هذا عمر منارة الله في الدنيا هديته إلى الحياة، على مائدة سيرته أطايب العظمة والرحمة، عبقري صحح مفاهيم الحياة، وأفرغ عليها نوراً من روحه، وكساها عظمة من سلوكه وكان للمتقين إماماً، أعظم آيات التفوق الإنساني، ونبوغ النفس، وبطولة الروح، وإعداد السلوك، هنا ترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا يكاد يخطر على قلب بشر.
هنا العظائم تتفوق على نفسها ويزحم بعضها بعضاً، هنا عمر رضي الله عنه، هذا موقفه من الضعيف.
وعثمان الأواب الرحيم التائب، كان يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت، عثمان الرحيم الذي تشع الرحمة في حياته نبراساً لكل تصرفاته العادية، والتي يتوقف عليها أمر الحياة والموت، كانت الرحمة نبراس تلك التصرفات جميعها! يغضب على خادم له يوماً فيفرك أذنه حتى يوجعه، ثم سرعان ما يدعو خادمه ويأمره أن يقتص منه فيفرك أذنه، فيأبى الغلام ويأمره عثمان فيطيع، ثم يقول: زد يا غلام! فإن قصاص الدنيا أرحم من قصاص الآخرة.
عثمان رضي الله عنه الخليفة الطاعن في السن الذي يرفض أن يوقظ خادمه كي يعد له وضوءه، ويتحامل على شيخوخة مجهدة في إحضار الماء وإسباغ الوضوء.
ولما اشتد حصار الثوار لداره قال للصحابة الذين تجمعوا حول داره ليواجهوا الثوار بالسلاح: إن أعظمكم عندي غناءً رجل كف يده وسلاحه، ويقول لـ أبي هريرة وقد جاء شاهراً سلاحه مدافعاً عنه: أما إنك والله! لو قتلت رجلاً واحداً لكأنما قتلت الناس جميعاً، ويقول للحسن والحسين وابن عمر وعبد الله بن الزبير وشباب الصحابة الذين أخذوا مكانهم لحراسته: أناشدكم الله وأسألكم به ألا تراق بسبب محجم دم، لله درك يا عثمان! رحمة جامعة تغطي بعطائها المقسط جلائل الأحداث وصغارها، للخادم منها حظه وحقه في أن ينعم براحة النوم، وإن أضنى الخليفة نفسه وشيخوخته في ظلمة الليل البهيم، ولقطرات الدم حظها وحقها في أن تنعم بالسلام والعافية، وإن كان بديل ذلك أن تزهق روح الخليفة الشيخ بيد معتد أثيم وغادر زنيم، توغلت الرحمة في حياته وفي سلوكه حتى اقتضته في آخر الأمر حياته نفسها فجاد بها، ولقد كان من الطبيعي لرجل وسعت رحمته الناس جميعاً أن تغطي رحمته ذوي القربى، قال علي رضي الله عنه: أوصلنا للرحم عثمان، لقد كان عثمان في ذلك نشيجاً وحده.
وانظر إلى عظم الرحمة عند عمر بن عبد العزيز وإلى رفقه بالحيوان، عن أبي عثمان الثقفي قال: كان لـ عمر بن عبد العزيز غلام على بغل له يأتيه بدرهم كل يوم، فجاءه يوماً بدرهم ونصف، فقال: ما بدا لك؟ قال: نفقت السوق، قال: لا، ولكنك أتعبت البغل، فأجمه ثلاثة أيام.
وكتبت إليه امرأة مسكينة تسمى فرتونة السوداء من الجيزة بمصر: أن لها حائطاً متهدماً لدارها يتسوره اللصوص ويسرقون دجاجها، وليس معها مال تنفقه في هذا السبيل، فيكتب عمر إلى واليه على مصر أيوب بن شرحبيل: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أيوب بن شرحبيل سلام الله عليكم، أما بعد: فإن فرتونة السوداء كتبت إلي تشكو إلي قصر حائطها وأن دجاجها يسرق منه وتسأل تحصينه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فاركب بنفسك وحصنه لها، وكتب إلى فرتونة: من عبد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء سلام الله عليك أما بعد: فقد بلغني كتابك وما ذكرته فيه من قصر حائطك حيث يقتحم عليك ويسرق دجاجك، ولقد كتبت إلى أيوب بن شرحبيل آمره أن يبني لك الحائط حتى يحصنه مما تخافين إن شاء الله.
يقول ابن عبد الحكم راوي هذه القصة الباهرة: فلما جاء الكتاب إلى أيوب بن شرحبيل ركب بنفسه حتى أتى الجيزة، وظل يسأل عن فرتونة حتى وجدها فإذا هي سوداء مسكينة، فأعلى لها حائطها: كم من شريعة حق قد نعشت لهم كانت أميتت وأخرى منك تنتظر يا لهف نفسي ولهف الواجدين معي على العدول التي تغتالها الحفر لو أعظم الموت خلقاً أن يوقعه لعدله لم يصبك الموت يا عمر ويقول القائل: أقول لما نعى الناعون لي عمر لا يبعدن قوام الحق والدين لم تلهه عمره عين يفجرها ولا النخيل ولا ركض البراذين قد غادر القوم في القبر الذي لحدوا بدير سمعان قسطاس الموازين عن الأوزاعي قال: شهدت جنازة عمر بن عبد العزيز؛ ثم خرجت أريد مدينة قنسرين، فمررت على راهب فقال: يا هذا أحسبك شهدت وفاة هذا الرجل، قال: فقلت: نعم، فأرقى عينيه فبكى فقلت له: ما يبكيك ولست من أهل دينه، فقال: إني لست أبكي عليه، ولكن أبكي على نور كان في الأرض فانطفأ.
ولما مات أذهل موته إمبراطور الروم، قال: والله! مات ملك عادل ليس لعدله مثيل، مات الرجل الصالح، لأحسب أنه لو كان أحد يحيي الموتى بعد عيسى بن مريم لأحياهم عمر بن عبد العزيز.
هذه رحمة عمر بن عبد العزيز بالناس، أين هو ممن وسع ا