تعود بنا الذكريات إلى عصر أبطال في التاريخ، إلى أبي الأنبياء، إلى خليل الرحمن إبراهيم، الذي قال فيه ابن عباس: ما قام بدين الله كله إلا إبراهيم عليه السلام، قدم جسمه للنيران، وماله للضيفان، وولده للقربان، {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}[النجم:٣٧]، فقام بأمر الله كله، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:(نحن أولى بالشك من إبراهيم).
قام أمر إبراهيم كله على اليقين، ما قام بأمر الله كله إلا إبراهيم، وانظروا إلى الكون في عهد إبراهيم وإلى الأرض وهي تموج بالكفر وتضطرب إلا هو وزوجه وابن أخيه، سبحان الله! أي غربة فوق هذه الغربة، إبراهيم وابن أخيه وزوجه فقط، وكل من على الأرض بعد ذلك كافر.
جمعوه في النيران ويقول رءوس الكفر كلمتهم، ويقول الله عز وجل كلمته، قال تعالى:{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[الأنبياء:٦٨ - ٦٩]، فانظر ما الفرق بين كلمة وكلمة: كلمة تذهب أدراج الرياح إلى مزابل التاريخ، وكلمة أخرى تنشر بها عوالم وتخلق بها نواميس، ويحق الله عز وجل الحق بكلماته.
{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[الأنبياء:٦٩]، تتلقاه الملائكة وهو يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ويطارد إبراهيم ويهاجم، إبراهيم عليه السلام المقطوع من الولد والأهل والعشيرة، الشيخ الطاعن في السن، يرزقه الله تبارك وتعالى الولد وهو في شيخوخته بعد أن دعا الله تبارك وتعالى:{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}[الصافات:١٠٠].
إبراهيم -وكله أدب مع الله عز وجل- يقول مثنياً على ربه:{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ}[الشعراء:٧٨ - ٨٠] ولم يقل: وإذا أمرضني، وإنما قال:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء:٨٠]، فنسب إرادة المرض إلى نفسه؛ أدباً مع الله عز وجل.
إبراهيم الذي رزق كمال الأدب مع الله عز وجل، المتواضع في عظم النبوة وجلالها يقول:{وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[الشعراء:٨٣]، ويقول:{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}[الشعراء:٨٢].