للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حال العاصي في نار جهنم]

ثم بعد ذلك يعرضون على النار، {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:١٢]، يقول سيدنا عمر لـ كعب: يا كعب! هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها بذكر النار، فيقول: يا أمير المؤمنين! يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، فإذا زفرت زفرة فما من دمعة في العيون إلا وقد جفت، وإذا زفرت الأخرى فما من نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا وجثى على ركبتيه وقال: نفسي! نفسي! حتى لو كان لك يا أمير المؤمنين عمل سبعين نبياً إلى عملك لظننت أنك لا تنجو.

فانظر يا أخي إلى صفة النار أجارنا الله وإياك منها، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) يعني: عدد الملائكة الذي سيجرون جهنم على عرصات القيامة -هذه النار الكبرى الداهية العظمى التي ما أنذر العباد بشيء أشد منها- أربعة آلاف مليون ملك وتسعمائة مليون ملك، فاضرب سبعين ألفاً في سبعين ألفاً يكون الناتج: أربعة ألف مليون وتسعمائة مليون ملك.

وحين يقول الله عز وجل: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:٣٠] فيضعون القيد في رقبته، ويبتدره مائة ألف ملك أو يزيدون كلهم يريد أن يضع الغل في عنقه، فيقول: ألا ترحموني؟ فيقولون: كيف ولم يرحمك أرحم الراحمين؟ ويحشرون كما يقول الله تبارك وتعالى إلى جنهم زرقاً، سود الوجوه، زرق العيون، وهذا أبشع منظر عند العرب! أفمن يصرف إلى النار هكذا كمن يزف إلى الجنة؟ فالجنة تقرب من المؤمنين، قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:٣١] حتى تتلقاه الحور العين على عتبة البيت، فالرجل يتكلم من هذه؟ فتقول: قد طال اشتياقي إليك يا ولي الله! وهذا النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة إلا وعلى رأسه التيجان تتلقاه الملائكة من كل باب: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:٢٣ - ٢٤]، وأعظم من هذا: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:٥٨].

وأعظم من هذا: سماع القرآن بصوت سيدنا داود، كان إذا تلا الزبور في دار الدنيا تسبح الجبال معه وتؤوب، والطير، وكل الكون يسبح مع سيدنا داود، فإذا تلا القرآن في الجنة أنسى أهل الجنة نعيم الجنان، فكيف إذا رأوا ربهم، يقول: (يا عبادي! ألكم حاجة؟ فيقولون: يا رب ألم تبيض وجوهنا، وتثقل موازيننا، وتغفر ذنوبنا، وتدخلنا الجنة؟ فيقول لهم الله عز وجل: اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً)، فترفع الحجب فينظرون إلى مولاهم فما أعطي أهل الجنة أعظم من النظر إلى وجه الله الكريم.

وإذا زاروا ربهم وعادوا إلى أهليهم وجدوهم قد ازدادوا حسناً، وهم قد ازدادوا حسناً في أعين أهليهم، حتى إن الرجل ليحلو في عين أهله سبعين ضعفاً، فبمجرد ما تقعد عنده ثم تلتفت له مرة ثانية يحلو في عينها سبعين ضعفاً.

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لقاب قوسين أو موضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها)، وفي رواية: (ولنصيفها خير من الدنيا وما فيها) والنصيف: هو الخمار الذي على جيبها وصدرها فإذا كان نصيفها خير من الدنيا وما فيها فكيف ستكون الحور العين؟! وكم سيكون قدرها عند الله عز وجل؟ قد هيئوك لأمر لو فطنت له فأربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل وانظروا إلى الطرف الآخر: هذا الرجل العاصي الذي دخل النار يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حرارة النفس الذي يخرج منه؛ لأنه يتنفس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم شخص من أهل النار فتنفس لاحترق المسجد بمن فيه) فإذا كان هذا نفس يخرج منه فيحرق مسجداً فيه مائة ألف مصل فكيف ستكون أجوافهم من الداخل؟ وإذا كان لم يدخل النار والعرق ينزل في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمه حتى يكاد يغرقه فإذا دخل النار فكيف ستكون حاله؟! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم)، فكيف بمن يكون الزقوم طعامه وشرابه؟! {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:٤٣ - ٤٧].

وقال الله تبارك وتعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات:٦٢ - ٦٨].

سبحان الله! إذا كان هذا وصف لون واحد من الطعام فكيف بالشراب؟ وكيف بالثياب؟ ولقبح المنظر يقوم الشيطان بينهم خطيباً ويلعن بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم بعضاً، وكلما دخلت أمة لعنت أختها! وأما شرابهم فقال الله عز وجل: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:١٥] وقال الله عز وجل: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف:٢٩] أي: مثل الزيت الأسود المغلي: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:٢٩] وقال الله عز وجل: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:١٥ - ١٧].

إن طاعة الله أهون علينا من هذا كله! فكيف لا تحب من أنت به، وبقاؤك منه، وتدبيرك بيده، ورجوعك إليه وكل مستحسن في الوجود هو حسنه وجمله وزينه، وعطف النفوس إليه، لقد أعطاك أيتها النفس! ما لم تأمري، وبلغك ما لم تطلبي، وستر عليك من القبيح ما لو فاح لضجت المشام، فكم عدو حط منك بالذم فرقاك، وكم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك، وكم أمات بعض من لم يبلغ مرادك وأبقاك!! أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الأماني أن يتوبا أنا العبد الذي أمسى حزيناً على زلاته قلقاً كئيبا أنا العبد الذي سطرت عليه صحائف لم يخف فيها الرقيبا أنا الغدار كم عاهدت عهداً وكنت على الوفاء به كذوبا أنا العبد المخلف عن أناس حووا من كل معروف نصيبا أنا العبد الغريق بلج بحر أصيح لربما ألقى مجيبا أنا العبد الفقير مددت كفي إليكم فادفعوا عني الخطوبا أنا العبد السقيم من الخطايا وجئت الآن ألتمس الطبيبا أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا أنا العبد المفرط ضاع عمري ولم أرع الشبيبة والمشيبا فواأسفا على عمر تقضى ولم أكسب به إلا الذنوبا وأحذر أن يعاجلني ممات يحير هول مطلعه اللبيبا وواذلاه من قبح اكتسابي إذا ما أبدت الصحف العيوبا وذلة موقف وحساب عدل أكون به على نفسي حسيبا وواخوفاه من نار تلظى إذا زفرت وأقلقت القلوبا تكاد إذا بدت تنشق غيظاً على من كان ظلاماً مريدا فيا من مد في كسب الخطايا خطاه أما آن الأوان أن تتوبا وكن للصالحين أخاً وخلاً وكن في هذه الدنيا غريبا آن الأوان لتوبتنا! اللهم ارحم ذل مقامنا بين يديك، وبغض إلينا ساعات أكلنا وشربنا ونومنا واكفنا من النوم باليسير، واحشرنا مع نبينا في دار رضوانك غير مبدلين ولا مفتونين، ولا شاكين ولا مرتابين.

اللهم إنا نسألك لذة العيش بعد الموت، والنظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك.

اللهم اجعلنا لك ذكارين لك شكارين، إليك أواهين، لك منيبين، وتقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.