[الصبر وأنواعه]
ثم يقول الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:٤٥]، الصبر على الثلاثة الأنواع: صبر على الأقدار المؤلمة، وصبر على المعصية، وصبر على الطاعة، وأكملها: الصبر على المعصية، فلا يستوي صبر يوسف على إلقاء إخوته له في الجب مع صبره على مراودة امرأة العزيز له، فصبره على مراودة امرأة العزيز له أعظم من صبره على إخوته، كما لا يستوي صبر إبراهيم على إلقائه في النار مع صبر يعقوب على فقدان يوسف.
وهناك صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله.
فالصبر بالله هو: الاستعانة، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:١٢٧] يعني: أن ترى أن الذي يصبرك هو الله عز وجل.
والصبر لله: أن يكون دافع الصبر إرادة وجه الله عز وجل.
والصبر مع الله -وهو الأكمل-: أن تدور مع الأحكام الشرعية حيث دارت.
قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:١٠]، وقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:٢٤] يعني: لما أخذوا برأس الأمر: الصبر واليقين جعلناهم رءوساً.
وقال ابن تيمية: إنما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين.
يقول الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:٤٥] والمخاطبون بذلك: هم بنو إسرائيل، والمؤمنون تبع لهم في الخطاب.
فيطلب الله عز وجل من بني إسرائيل الاستعانة على طاعة الله عز وجل بصفة عامة، فيقول: استعينوا بالصبر والصلاة لتذهب عنكم شهوة الرئاسة والجاه، فعندما يطول الأمد، ويشق الجهد يضعف الصبر، فعليك أن تصبر على طول الطريق الشاق، وعلى قلة الناصح، وعلى أن ترى الشر منتشراً، والخير خافتاً، ولا شعاع في الأفق، ولا معلم في الطريق، وعليك أن تصبر على قساوة القلوب، وإعراضها عن كتاب الله عز وجل، وهنا يمد الله عز وجل الصبر بالصلاة؛ لأنها التقاء النقطة بالكنز الذي يغني ويفيض، إنها انطلاقة من حدود الأرض إلى كون الله الفسيح، إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال!).
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة خير موضوع، فمن أراد أن يستكثر فليستكثر)، ودائماً يوصى الدعاة بالصبر وعدم العجلة؛ لأن العجلة تضيع ثمرة الخير التي في الدعوة، يقال بعضهم: إن القائد المحنك لا يخدع بحماس الجماهير الثائرة من ورائه، ثم يضرب المثل على ذلك بقول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:٢٤٦]، وهم الذين طلبوا القتال والبذل والعطاء، فلما فرض عليهم القتال تولوا، وهذه هي الانتكاسة الأولى، والانتكاسة الثانية: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ * قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:٢٤٧ - ٢٤٨].
الانتكاسة الثالثة: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:٢٤٩]، {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:٢٤٩]، وهذه الانتكاسة الرابعة.
ولذلك يقول سيدنا خباب بن الأرت: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لاقينا من المشركين شدة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه، وقال: إنه كان يؤتى بالرجل من قبلكم فيوضع في حفرة، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين جلده وعظمه ما يمنعه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، وذلك أن الصحابة لاقوا ما لاقوا وصبروا، فقد كان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول، وبلال ينشد نشيده القدسي: أحد أحد، فالفتنة التي تعرض لها الصحابة هي من أشد الفتن، قال الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤].
وقال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:١١٠].
إن طريق التربية الإيمانية هو أقرب الطرق لإعادة دولة الإسلام وإن ظنه الناس أنه أبعد طريق، ولا بد من ابتلاء كما قيل للشافعي: يبتلى الرجل أم يمكن؟ قال: لا يمكن حتى يبتلى، فلابد من التربية الإيمانية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه! قالوا: كيف يا رسول الله! يذل نفسه؟ قال: يعرضها من البلاء لما لا يطيق).
فأين أنت يا مخنث العزم! والطريق طويل، تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، واضطجع للذبح إسماعيل، وشق بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وعاش مع الوحوش عيسى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار في البكاء داود، واتهم بالسحر والشعوذة والجنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشد الحجر على بطنه من شدة الجوع، ولله خزائن السماوات والأرض، وكسرت رباعيته، وشق رأسه، ولله جنود السماوات والأرض، وسم أبو بكر، وطعن عمر، وذبح عثمان، وطعن علي، وسم الحسن بن علي، وقتل الحسين بن علي، وسم عمر بن عبد العزيز، وقتل الحجاج سعيد بن جبير وما في الأرض رجل إلا وهو محتاج إلى علمه، فالأمر يحتاج إلى صبر، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مدة دعوته ثلاث وعشرين سنة، فضى منها أكثر من ثلاث عشر سنة في التربية الإيمانية، ولم يتم له النصر الأكبر والأكمل والأكثر تأثيراً المتمثل في فتح مكة إلا قبل وفاته بعامين فقط، فلا تطلب من الناس أن يلتزموا بكل الأحكام مباشرة، ولا تطلق الأحكام على الناس، {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ} [النساء:٩٤]، فجاهد نفسك، وهذه هي البداية، {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} [التوبة:١٢٣]، فمن لم ينتصر على نفسه لا ينتصر على غيره، والإمام ابن القيم تكلم عن جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد أهل البدع، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.