[إيثار محاب الله على محابك]
السبب الرابع: إيثار محاب الله على محابك عند غلبات الهوى، والتسلم إلى مراقيه وإن صعب المرتقى إلى محابه: إذا عرض لك أمران أمر فيه محبة لله عز وجل، وأمر فيه حظ نفسك، فابدأ بحق الله أولاً، كما قال المحاسبي: البصير الصادق لا يبالي ولو خرجت كل محبة له من قلوب الخلق في سبيل أن يصلح ما بينه وبين مولاه قيد أنملة.
انظر إلى الناس فامقتهم كلهم في جنب الله عز وجل، ثم انظر إلى نفسك تكون أشد مقتاً لها، راع حق الله عز وجل، انظر إلى خليل الرحمن إبراهيم يرزق الولد على الكبر، فتتعلق شعبة من قلبه بحب ابنه، وهذا شيء جبلي وفطري وغريزي، والله عز وجل يغار على قلب خليله، وهذه للخليل ليست لغيره، والله يغار على قلب خليله أن يسكن إلى غيره، فأمره بذبح الغلام.
فلما تحقق صدق عزمه وهم بذبح الغلام حصل المقصود، وطرد المزاحم من قلب الخليل! فأقر الله عينه بولده مثلما قرت عينه بالله عز وجل، سيدنا إبراهيم يأتي برضيعه وبزوجه إلى جبال فاران موضع مكة الآن، تقول له زوجته: يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ يقول لها: نعم، تقول: إذاً فلن يضيعنا، كلمات يعجز عنها كل من في الدنيا وقد قالتها امرأة مصرية! الذين يريدون أن يفتخروا بصعاليك الفراعنة نقول لهم: افتخروا بـ أم إسماعيل، هي الطهر كل الطهر، خطواتها جعلها الله ركناً من أركان الحج، هذا ما أورثتكموه أم إسماعيل بصدقها، الخطوات التي مشتها بين الصفا والمروة والهرولة جعلها الله ركناً من أركان الحج لا ينعقد الحج إلا به، بصدق المرأة.
فما ظنك بالرجال! سيدنا إبراهيم لم يتلكأ، ولم يضطرب، والله عز وجل يأمره بترك ولده الرضيع، وبترك زوجه، أنت الآن عندك ثلاجة اثنا عشر قدماً، وتضع فيها لحمة في الفريزر قدر جمل، ولا تقنع بهذا! عندك أكلك وشربك وفي نعمة مرتاح فيها، أما أنت يا هاجر في مكة بين الهجير والحر، إلى من وكلكما إبراهيم؟ إلى الله، وكلكما إلى خير كافل، لا تخشي الضيعة إن الله لا يضيع أهله.
يأمره الله عز وجل بذبح ولده في رؤيا منامية، ورؤيا الأنبياء حق ووحي، ولم يتلكأ ولم يضطرب، ويأمره بأن يباشر هو بنفسه عملية الذبح، وهذا مشهد عظيم لم يتكرر ولن يتكرر، منارة عالية من منارات الإيمان والتضحية والتسليم لأمر الله عز وجل، جعلت من يوم النحر أعظم يوم عند الله عز وجل، أعظم أيام الدنيا، يأمره الله عز وجل بذبح ولده، فيباشر ويهم ببدء عملية الذبح.
ولكن يريد أن يرفع ابنه إلى درجة الإيمان وحلاوته حتى يتذوقه، فقال له: يا بني! إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟! {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:١٠٢].
الشيخ سيد قطب رحمه الله يقول: قد يندفع المجاهد في المعركة ليخفي جبنه وهلعه وخوفه؛ لأنه لو قعد وفكر قليلاً فيمكن أن ينكص على عقبيه، فلم يكن الأمر عند سيدنا إبراهيم اندفاعاً من أجل أن يخلص من الضغط النفسي بذبح ابنه، هذا يريد أن يكون على طمأنينة وتريث، يريد أن يذوق جمال التسليم لأمر الله عز وجل، هو وابنه.
فما كل عين في الحبيب قريرة فدينك عرضك، دينك لحمك، دينك دمك، إن كان هذا الكلام كبيراً علي وعليك، فيبقى مقالة أبي حازم الأعرج حيث قال: قد رضينا من أحدكم أن يحافظ على دينه كما يحافظ على نعله، إن الرجل إذا اتسع خرق نعله قام ليصلحه.
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع العلامة ابن القيم يقول: إيثار الله على غيره، وهذا مقام كان الأوحد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، آثر الله، وآثر محاب الله عز وجل على من سواه.