قال منصور بن عمار: سمعت في بعض الليالي بالكوفة عابداً يناجي ربه ويقول: يا رب! وعزتك ما أردت بمعصيتك مخالفتك، ولا عصيتك إذ عصيتك وأنا بمكانك جاهل، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لنظرك مستخف، ولكن سولت لي نفسي، وأعانني على ذلك شقوتي، وغرني سترك المرخى علي، فعصيتك بجهلي، وخالفتك بفعلي، فمن عذابك الآن من يستنقذني؟! وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني؟ واسوأتاه من الوقوف بين يديك غداً إذا قيل للمخفين: جوزوا، وقيل للمثقلين: حطوا، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما كبرت سني كثرت ذنوبي! ويلي كلما طال عمري كثرت معاصي! فإلى متى أتوب؟ وإلى متى أعود؟ أما آن لي أن أستحي من ربي؟! انظر يا أخي! هذه معاتبة نفس، زفرات صدر، وأشجان قلب يمم وجهه شطر الدار الآخرة مستراح العابدين يبثها في خشوع، تابعي جليل من القرون الخيرية، من تلامذة الصحابة، ربي وصنع على أيديهم، شرب من سلسبيل القرآن والسنة، وكحل أجفان قلبه بهما، فانظر إليه كيف يستنصر الدمع في مناجاته، إنه عون بن عبد الله بن عتبة، يقول: ويحي لم أعصي ربي؟! ويحي إنما عصيته بنعمته عندي! ويحي من خطيئة ذهبت شهوتها وبقيت تبعتها عندي في كتاب كتبه كتاب لم يغيبوا عني! واسوأتاه لم أستحيهم ولم أراقب ربي! ويحي نسيت ما لم ينسوا مني! ويحي غفلت ولم يغلفوا عني! لم أستحيهم ولم أراقبه، ويحي حفظوا ما ضيعت مني! ويحي طاوعت نفسي وهي لا تطاوعني! ويحي طاوعتها فيما يضرها ويضرني! ويحي ألا تطاوعني فيما ينفعها وينفعني؟! ويحها ألا تطاوعني فيما ينفعها وينفعني؟! أريد إصلاحها وتريد أن تفسدني، ويحها إني لأنصفها وما تنصفني! أدعوها لرشدها وتدعوني لتغويني! ويحها إنها لعدو لو أنزلتها تلك المنزلة مني! ويحها تريد اليوم أن ترديني وغداً تخاصمني! ويحي كيف أفر من الموت وقد وكل بي؟! ويحي كيف أنساه ولا ينساني؟! ويحي إنه يقص أثري! فإن فررت لقيني، وإن أقمت أدركني، ويحي هل عسى أن يكون قد أظلني فمساني وصبحني، أو طرقني فبغتني؟! ويحي أزعم أن خطيئتي قد أقرحت قلبي، ولا يتجافى جنبي، ولا تدمع عيني ولا تأثر لي ولا يسهر ليلي؟! ويحي كيف أنام على مثلها ليلي؟! ويحي هل ينام على مثلها مثلي؟! ويحي لقد خشيت ألا يكون هذا الصدق مني؟! بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي كيف لا توهن قوتي ولا تعطس هامتي؟! بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي كيف لا أنشط فيما يطيفها عني؟! بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي! كيف لا يذهب ذكر خطيئتي كسلي، ولا يبعثني إلى ما يذهبها عني؟! بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي! لا تنهاني الأولى من خطيئتي عن الآخرة، ولا تذكرني الآخرة من خطيئتي بسوء ما ركبت من الأولى! فويلي ثم ويلي إن لم يتم عفو ربي، ويحي لقد كان لي فيما استوعبت من لساني وسمعي وقلبي وبصري اشتغال، فويلي إن لم يرحمني ربي! ويلي إن حجبت يوم القيامة عن ربي فلم يزكني، ولم ينظر إلي، ولم يكلمني! أعوذ بنور وجهه من خطيئتي، وأعوذ به أن أعطى كتابي بشمالي أو وراء ظهري؛ فيسود به وجهي، وتزرق به مع العمى عيني، بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي بأي شيء أستقبل ربي بلساني أم بيدي أم بسمعي أم بقلبي أم ببصري؟! ففي كل هذا له الحجة والطلبة عندي، فويلي إن لم يرحمني ربي، كيف لا يشغلني ذكر خطيئتي عن ما لا يعنيني؟! ويحك يا نفس ما لك تنسين ما لا ينسى، وقد أوتيت ما لا يؤتى، وكل ذلك عند ربي يحصى، في كتاب لا يبيد ولا يبلى، ويحك لا تخافين أن تجزي في من يجزى، يوم تجزى كل نفس بما تسعى، وقد آثرت ما يفنى على ما يبقى، يا نفس! ويحك ألا تستفيقين مما أنت فيه إن سقمت تندمين، إن صححت تأثمين، إن افتقرت تحزنين، إن استغنيت تفتنين، ما لك إن نشطت تزهدين، فلما إن دعيت تكسلين؟ أراك ترغبين قبل أن تنصبي، فلم لا تنصبين فيما ترغبين؟! يا نفس! ويحك لم تخالفين؟ تقولين في الدنيا قول الزاهدين، وتعملين فيها عمل الراغبين! ويحك لم تكرهين الموت؟! يا نفس ويحك أترجين أن ترضي ولا تراضين؟ ما لك إن سألت تكثرين، فلما إن أنفقت تقترين؟! تعظمين في الرهبة حين تسألين، وتقصرين في الرغبة حين تعملين، تريدين الآخرة بغير عمل، وتؤخرين التوبة لطول الأمل! لا تكوني كمن يقال: هو في القول مدل، ويستصعب عليه الفعل.
ويح لنا ما أغرنا! ويح لنا ما أغفلنا! ويح لنا ما أجهلنا! ويح لأي شيء خلقنا؟! أللجنة أم للنار؟ ويح لنا أي خطر خطرنا، ويح لنا من أعمالنا! ويح لنا مما يراد بنا! ويح لنا كأنما يعنى غيرنا! ويح لنا إن ختم على أفواهنا، وتكلمت أيدينا، وشهدت أرجلنا! ويح لنا حين تفتش سرائرنا! ويح لنا حين تشهد أجسادنا! ويح لنا مما قصرنا! لا براءة لنا، لا عذر عندنا، ما أطول أملنا! ويح لنا حيث نمضي إلى خالقنا! ويح لنا والويل الطويل لنا إن لم يرحمنا ربنا، فارحمنا يا ربنا! ويحي! كيف أغفل ولا يغفل عني؟! كيف تهنئني معيشتي واليوم الثقيل ورائي؟! كيف لا يطول حزني ولا أدري ما يفعل بي، أم كيف تهنأ لي الحياة ولا أدري ما أجلي؟ أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل منها يكفيني؟ أم كيف آمن ولا يدوم فيها حالي؟ أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري؟! أم كيف أجمع لها وفي غيرها قراري؟ أم كيف يشتد عليها حرصي ولا ينفعني ما تركت فيها بعدي؟ أم كيف أوثرها وقد أضرت بمن آثرها قبلي؟ أم كيف لا أبادر بعمل قبل أن يغلق باب توبتي؟ أم كيف يشتد إعجابي بما يزايلني وينقطع عني؟ أم كيف أغفل عن أمر حسابي وقد أظلني واقترب مني؟ أم كيف أجعل شغلي فيما قد تكفل لي به؟ أم كيف أعاود ذنوبي وأنا معروض على عملي؟ أم كيف لا أعمل بطاعة ربي وفيها المنجاة مما أحذر على نفسي؟ أم كيف لا يكثر بكائي ولا أدري ما يراد بي؟ أم كيف تقر عيني مع ذكر ما سلف مني؟ أم كيف أعرض نفسي لما لا يقوى له جسدي؟ أم كيف لا يشتد هولي مما يشتد منه جزعي؟ أم كيف تطيب نفسي مع ذكر ما هو أمامي؟ كيف يطول أملي والموت في أثري؟ كيف لا أراقب ربي وقد أحسن طلبي؟ ويحي! هل ضرت غفلتي أحداً سواي؟ أم هل يعمل لي غيري إن ضيعت حظي؟! أم هل يكون عملي إلا لنفسي، فلم أدخر عن نفسي ما يكون نفعه لي؟ ويحي! كأنه قد تصرم أجلي ثم أعاد ربي خلقي كما بدأني، ثم أوقفني وسألني وسأل عني وهو أعلم بي، ثم أشهد الأمر الذي أذهلني عن أحبابي وأهلي، وشغلت بنفسي عن غيري! وبدلت السموات والأرض وكانتا تطيعان وكنت أعصي، سيرت الجبال وليس لها مثل خطيئتي، وجمع الشمس والقمر وليس عليهما مثل حسابي، وانكدرت النجوم وليست تطلب بما عندي، وحشرت الوحوش ولم تعمل بمثل عملي، وشاب الوليد وهو أقل ذنباً مني.