للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خطبة القدس التي ألقاها قاضي صلاح الدين]

أما خطبة القدس التي ألقاها محيي الدين بن زكي قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٤٥].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:٢ - ٤].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١].

{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء:١١١].

وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:١].

وقال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:٥٩].

وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [سبأ:١].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:١] ثم أتى بآيات الحمد كلها.

الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذِّل الشرك بقهره، ومصرِّف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره.

الحمد لله أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يرادع، والحاكم بما يريد فلا يُدافع.

أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه، ونصره لأنصاره، وتطهيره بيته المقدس من أدناس الشرك وأوزاره حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:٣ - ٤] شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه.

وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله رافع الشكر، وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السماوات العلى إلى سدرة المنتهى {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:١٥ - ١٧].

صلى الله عليه، وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسّر الأوثان، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان أيها الناس! أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى، والدرجة العليا، لما يسّره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمم الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يُرفع وأن يُذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه، واستقر فيها رسمه، ورفع قواعده بالتوحيد فإنه بني عليه، وبالتقوى فإنه أُسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه، فهو موطن أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام.

وهو مقر الأنبياء, ومقصد الأولياء، ومفر الرسل، ومهبط الوحي، ومنزل تنزل الأمر والنهي.

وهو في أرض المحشر وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين.

وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه عيسى الذي شرفه الله برسالته، وكرّمه بنبوته، ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته، فقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء:١٧٢] وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة:١٧].

وهو أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تُعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، ولولا أنكم ممن اختاره الله من عباده واصطفاه من سكان بلاده لما خصّكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار، ولا يباريكم في شرفها مبار، فطوبى لكم من جيش صارت على أيديكم المعجزات النبوية، والوقعات البدرية، والعزمات الصدّيقية، والفتوح العمرية، والجيوش العثمانية، والفتكات العلوية جددتم للإسلام أيام القادسية، والوقعات اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية فجزاكم الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبّل منكم ما تقربتم به إليه من مهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها، فله النعمة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة، وترشيحكم لهذه الخدمة؛ فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء، وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء، وابتهج به الملائكة المقربون، وقر به عيناً الأنبياء والمرسلون.

فماذا عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يُفتح عليه البيت المقدس آخر الزمان، والجند الذي تقوم بسيوفهم -بعد فترة من النبوة- أعلام الإيمان، فيوشك أن يكون هناك التهاني به بين أهل الخضراء أكثر من التهاني به بين أهل الغبراء، أليس هو البيت الذي ذكر الله في كتابه، ونص عليه في خطابه، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:١]؟ هو البيت الذي عظمته الملوك، وأثنت عليه الرسل، وتُليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من إلهكم عز وجل، أليس هو البيت الذي أمسك الله عز وجل الشمس على يوشع بن نون لأجله أن تغرب؟ وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب؟ أليس هو البيت الذي أمر الله موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان، وغضب عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان؟ فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل وقد فضّلهم على العالمين، ووفقكم لما خُذل فيه من كان قبلكم من الأمم الماضين، وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى، وأغناكم بما أمضته كان وقد عن سوف وحتى، فليهنكم أن الله قد ذكركم فيمن عنده، وجعلكم بعد أن كنتم جنوداً لأهويتكم جنده، وشكركم الملائكة المنزلون على ما هديتم إلى هذا البيت من طيب التوحيد، ونشر التقديس والتحميد، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث والاعتقاد الفاجر الخبيث، فالآن يستغفر لكم أملاك السماوات، وتصلي عليكم الصلوات المباركات.

فاحفظوا -رحمكم الله- هذه الموهبة فيكم، واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله الذي من تمسك بها سلم، ومن اعتصم بعروتها نجا وعُصم، واحذروا من اتباع الهوى وموافقة الردى، ورجوع القهقرى، والنكول عن العدا، وخذوا في انتهاز الفرصة، وإزالة ما بقي من الغصة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وبيعوا -عباد الله- أنفسكم في رضاه؛ إذ جعلكم من عباده.

وإياكم أن يستزلكم الشيطان وأن يتداخلكم الطغيان فيخيل إليكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد، وبخيولكم الجياد، وبجلادكم في مواطن الجلاد، لا والله! {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:١٠].

واحذروا -عباد الله- بعد أن شرّفكم بهذا الفتح الجليل، والمنح الجزيل، وخصّكم بهذا الفتح المبين، وأعلق أيديكم بحبله المتين أن تقترفوا كثيراً من مناهيه، وأن تأتوا عظيماً من معاصيه، فتكونوا {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:٩٢] ومثل {الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:١٧٥].

الجهاد الجهاد! فهو أفضل عباداتكم، وأشرف عاداتكم، انصروا الله ينصركم، اذكروا الله يذكركم، اشكروا الله يزدكم ويشكركم، جدوا في حسم الداء، وقطع شأفة الأعداء، وتطهير بقية الأرض من الفئة التي أغضبت الله ورسوله، اقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله، فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية، والملة المحمدية.

الله أكبر فتح الله ونصر غلب الله وقهر أذل الله من كفر.

واعلموا رحمكم الله أن هذه فرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، ومهمة فأخرجوا لها هممكم، وبرّزوها وسيروا إليها سرايا حسناتكم، وجهّزوها فالأمور بأواخرها والمكاسب بذخائرها فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول، وهم مثلكم أو يزيدون، فكيف وقد أضحى في قبالة الواحد منهم منكم عشرون، وقد قال الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:٦٥].

أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره، والازدجار بزواجره، وأيدنا معشر المسلمين بنصر من عنده {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:١٦٠] ثم دعا للسلطان صلاح الدين الأيوبي فقال: اللهم وأدم سلطان عبدك، الخاضع لهيبتك، الشاكر لنعمتك، المعترف بموهبتك، سيفك القاطع، وشهابك اللامع، المحامي عن دينك المدافع، الذاب عن حرمك المانع، السيد الأجل، الملك الناصر، جامع كلمة الإيمان، وقامع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، مطهر البيت المقدس أبي المظفر يوسف بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين.

اللهم عم بدولته البسيطة، واجعل ملائكتك براياته محيطة، وأح