[ما أعده الله للذين لا يعملون بعلمهم أو يخالفونه]
وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقرءون العشر آيات حتى يعملوا بها، فتعلموا العلم والإيمان معاً؛ ولذلك كان أبو سليمان الداراني يقول: يا أصحاب السورة! ويا أصحاب السورتين! ماذا غرس القرآن في قلوبكم؟ ثم يقول: إن القرآن ربيع قلب المؤمن، كما أن الغيث ربيع الأرض.
وكان أحد أبناء العباد يقول لأبيه: يا أبتي! مالي أراك إذا تكلمت أبكيت، ووعظ غيرك لا يبكي العيون؟ قال: يا بني! إن العالم إذا لم ينتفع بعلمه زالت موعظته عن القلوب، ثم قال: يا بني! ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها من لم يبت والحب حشو فؤاده لم يدر كيف تفتت الأكباد ولذلك سئل يونس بن عبيد تلميذ الحسن البصري: هل رأيت من يعمل بعمل الحسن؟ قال: لا والله، ما رأيت من يقول بقول الحسن حتى أرى من يعمل بعمله، إن الحسن كان إذا تكلم أبكى القلوب، ووعظ غيره لا يبكي العيون.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل فيدور على أهل النار فتندلق أقتابه -يعني: أمعاؤه- فيقولون له: ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
وقد وصف الله عز وجل الذين لا يعملون بعلمهم بأبشع وصف، قال الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:٥]، فالرجل الذي لا ينتفع بعلمه كالحمار يحمل الأسفار ولا ينتفع بها: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول بل وصفهم الله عز وجل أيضاً بوصف أبشع من الأول فقال: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:١٧٦].
وقال صلى الله عليه وسلم: (غير الدجال أخوف على أمتي من الدجال؛ الأئمة المضلون).
وهم الذين لا يعملون بعلمهم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)، فتسأله في المسألة فيجيب إجابة جيدة جداً ولكنه لا يطبق، فهذا أخوف ما يخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، فكل إنسان يعظ الناس ثم لا يعمل هو بالوعظ فهذه مصيبة كبيرة.
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى وريح الخطايا من ثيابك تسطع وقال آخر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:٢ - ٣].
وقال عن شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:٨٨].
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو مريض إن قوماً يأمروننا بالذي لا يفعلون لمجانين وإنهم لم يكونوا يصرعون قال إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص -يعني: الوعظ- لثلاث آيات: قول الله عز وجل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة:٤٤]، وقول الله عز وجل: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:٢]، وقول الله عز وجل: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:٨٨].
فالقضية أن يتعلم الإنسان أولاً العلوم الشرعية من باب العلم قبل القول والعمل، والعلم شرط في صحة العمل؛ لأنك إذا لم تعلم لم تستطع أن تفرق بين البدعة وبين السنة، فلا بد أن تتعلم أولاً، ثم تطبق ما تتعلم على نفسك، وتدعو الناس إليه، وتصبر على دعوة الناس، فالذي لا يطيق العلم واقعاً عملياً ممارساً في حياته، يصيبه الله عز وجل بقسوة القلب، ويبتعد عن منهج الله عز وجل.
وغالباً ما يؤدي الفصل بين العلم والعمل إلى وقوع الإنسان في الرياء، فإنسان يقول ولا يعمل بهذا القول يدفعه ذلك إلى طلب الشهرة؛ إذ لو كان الرجل يعمل بعلمه لابتعد أشد ما يبتعد عن الشهرة، قال سفيان الثوري: قلّ رجل تكبر حلقة درسه، أو يشتهر بين الناس إلا وابتعد عن الإخلاص.
ولذلك مر الحسن البصري على طاوس بن كيسان تلميذ ابن عباس وهو في المسجد الحرام فيهمس له في أذنه: إن كانت نفسك تعجبك فقم.
وطاوس بن كيسان هذا قال فيه ابن عباس: إنما طاوس طاووس، يعني: زين العباد، وكان إذا قال له هذا يقوم من فوره.
فارتباط العلم بالعمل هو الذي يجعل الإنسان يستقيم على درب الله تبارك وتعالى، ولذلك تجد الرجل إذا عمل بعلمه وعظ الناس بحاله وبلحظه حتى وإن لم يتكلم، وقد قالوا: إن شيخك من وعظك بلحظه قبل أن يعظك بلفظه، وقالوا: إن أخاك من نفعك بحاله قبل أن ينفعك بمقاله، ومن لم ينتفع بصمت العالم لا ينتفع بعلمه، ولذلك كان الناس إذا رأوا محمد بن سيرين خارجاً إلى السوق كبروا للنور الذي على وجهه، وكان إذا أقبل على الناس تبسم، ووسع على الناس، فإذا كان بمفرده خالياً بربه فكأنه قتل أهل القرية جميعاً، ولا بد أن يكون بينك وبين الله عز وجل خبء من عمل صالح: بكاء، صيام، صلاة، قراءة قرآن، تسبيح، لا تشعر به حتى زوجك، وأخلص العمل فإن الناقد بصير.