[تولي صلاح الدين أمور الحكم ودوره في تحرير القدس]
ومات نور الدين محمود زنكي قبل أن يكحّل ناظريه بفتح بيت المقدس، وأكمل المسيرة صلاح الدين الأيوبي سنة (٥٥٥) هجرية.
قال أبو حميد الطويل: دخلت على إمام الموصل الشيخ عمر الملا فوجدت رجلاً من المصريين يقول له: رأيت فيما يرى النائم أن أرضاً مملوئة بالخنازير وأن رجلاً معه سيف يقتل هذه الخنازير، قال: فظننت أنه المسيح عيسى بن مريم فقلت: المسيح عيسى بن مريم؟ قال: لا، بل يوسف -فـ يوسف هذا هو صلاح الدين الأيوبي - والناس ظنوا أن يوسف بن تاشفين هو الذي سيحرر بيت المقدس، أو ظنوه المستنجد بالله الخليفة العباسي، فلما كان تحرير بيت المقدس على يد يوسف صلاح الدين الأيوبي تذكر هذا العبد الصالح تلك الرؤية الصالحة.
ورأت أم صلاح الدين يوم حملت به من يبشرها: أن بطنك هذه تحمل سيفاً من سيوف الله عز وجل، ألا يا صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر يحاصرنا في اليوم بليون كافر ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر حصانك في سيناء يشرب دمعه ويا لعذاب الخيل إذ تتذكر وتأبى جراحي أن تضم شفاها كأن جراح الحب لا تتخثر تناديك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبر نساء فلسطين تكحلن الأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصّر وليمون يافا يابس في حقوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر وأصرخ يا أرض المروآت احبلي لعل صلاحاً ثانياً سوف يظهر مرض صلاح الدين الأيوبي فقال له قاضيه الفاضل ووزيره: انذر لله عز وجل إن شفاك الله من مرضك أن توجه كل همك لتحرير بيت المقدس، فنذر لله عز وجل بذلك، فلما شفاه الله من مرضه وفّى بهذا النذر، وأرسل إليه شاب من دمشق كان سجيناً في بيت المقدس يقول له: يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكّس جاءت إليك رسالة تسعى من البيت المقدس كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أدنس فتوجه صلاح الدين الأيوبي لفتح بيت المقدس والتقى بالصليبيين في حطين في آخر ربيع الآخر، وكان عدد الصليبيين ستين ألفاً ومعهم ملوك أوروبا، وانتصر صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين، وكانت معركة عظيمة لم يُسمع بها إلا في زمن الصحابة والتابعين، فمن رأى الأسرى قال: ليس هناك قتيل، ومن رأى القتلى قال: ليس هناك أسير، فقد أسر ثلاثين ألفاً، وقتل ثلاثين ألفاً، ووقع كل ملوك أوروبا في الأسر ومنهم رجل اسمه البرنس أرناط وكان شديد العداوة لله ورسوله، حتى أنه قبض على جماعة من المسلمين عند قرية الشوبك، فجعلوا يسألونه بالله وبالعهد الذي قطعه مع المسلمين فقال: نادوا محمداً ليخلصكم ثم قتلهم، فنذر صلاح الدين الأيوبي إن مكنه الله من أرناط أن يقتله، فلما وقع ملوك أوروبا كلهم في الأسر قتله، وكان يوماً عظيماً للمسلمين.
قال ابن الأثير: ولقد رأينا الفلاَّح من بلاد الشام يجر بطنب خيمته يسوق ستة وثلاثين أو خمسة وثلاثين من أسرى الفرنجة، ورأينا الرجل من الصليبيين يُباع بـ (زربول) يعني: نعل في لغة الشام -يباع الرجل منهم (بزربول) وهذا يدل على هوانهم في تلك الموقعة.
ولما تقدم الملوك الأسرى فكان من عادة العرب لو سقوا أسيراً أو أطعموه لا يقتلونه، فالسلطان جفري صاحب الكرك أراد أن ينجي أرناط من قتل صلاح الدين له فأعطاه الشراب الذي قدّمه له صلاح الدين ليسقيه من عطشه، فقال له صلاح الدين: أنت الذي سقيته، أنا ما سقيته، ثم قال: أنا نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليه الإسلام فأبى، فقتله بسيفه؛ غضبة لله ولرسوله.
وفي السابع والعشرين من رجب سنة (٥٨٣ هجرية) حاصرت جيوش صلاح الدين بيت المقدس من كل الجوانب، واستعد المجاهدون والمتطوعة برميها بالنفاطات وبالمجانيق، وعند ذلك عرض بليان بن نيزران والي القدس من قبل الصليبيين على صلاح الدين الأيوبي أن يتنازل له بالقدس صلحاً، فقال له صلاح الدين: والله! لا آخذها إلا عنوة كما أخذتموها من المسلمين عنوة، وأقتل رجالكم وأسبي نساءكم، فقال له بليان بن برزان: إذاً والله نقتل كل من معنا من أسرى المسلمين -وكانوا خمسة آلاف أسير- ونقتل نساءنا وأطفالنا، ونهدم المصانع -يعني: البيوت- ونغور نبع بيسان، ثم نخرج إليكم نقاتلكم في الصحراء، لا يقتل منا قتيل إلا قتل منكم عشرة ودون قيامة تقوم القيامة، وهنا استشار صلاح الدين رجال مشورته ورق لأسرى المسلمين، ورضي أن يخرجوا من بيت المقدس وترك لهم مهلة أربعين يوماً، والذي لا يستطيع أن يدفع من الرجال عشرة دنانير ومن النساء خمسة دنانير وعن كل طفل وطفلة ديناران يقع في أسر المسلمين، فوقع في أسر المسلمين بهذا الشرط بعد أربعين يوماً ستة عشر ألف أسير، وضم إلى بيت مال المسلمين مائتا ألف دينار، ودخل المسلمون في السابع والعشرين من شهر رجب بيت المقدس وكان يوم جمعة، ولم يستطيعوا أن يصلوا الجمعة في ذلك اليوم؛ لكثرة ما كان فيه من النجاسات والخنازير، وظلوا أسبوعاً كاملاً يغسلون بيت المقدس بالماء الطاهر، ثم بعد ذلك بماء الورد الفاخر، وأنزل الصليب من فوق قبة الصخرة، وعلا الأذان، وخفت صوت القسيسين والرهبان، وعُبد الواحد، وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وصدر المنشور من السلطان أن يتولى رجل من قريش الإمامة في المسجد، فأتى بكل آيات الحمد المذكورة في القرآن الكريم؛ وكانت هذه الأيام أياماً عظيمة.
ويا قدس هل أبقيت دمعاً لنائح حنانيك من شوق ومن عبرات ثم قام صلاح الدين الأيوبي بعد تحريره لبيت المقدس بتحرير باقي القلاع، وقبل أن يحرر بيت المقدس فتح عكا وصلى الجمعة في مسجدها في شهر محرم سنة (٥٨٣ هجرية) بعد غياب صلاة الجمعة مدة اثنين وسبعين سنة عن عكا، وحرر أربعة آلاف أسير مسلم كانوا في عكا، وافتتح خمسين مدينة.
هذا الرجل العظيم صلاح الدين الأيوبي كان يشكو من الدماميل في ظهره وفي وسطه، حتى إنه ما كان يأكل إلا متكئاً على جنبه، وبرغم هذا كان يعتلي صهوة جواده ويظل من الفجر إلى قرب صلاة الظهر، ومن العصر إلى المغرب وهو يطوف على أمراء جيشه، فيقول له قاضيه ابن شداد: إنك لا تستطيع الأكل إلا متكئاً! فيقول: والله إني إذا ارتقيت ظهر جوادي أنسى هذه الدماميل.
هذا السلطان العظيم الذي يقول: ما لنا بالإقامة في دمشق، إنما خلقنا للجهاد في سبيل الله عز وجل ويقول قاضيه ابن شداد عن هذا البطل العظيم الذي قنع بالسكون في ظل خيمة، وترك أولاده ثلاث سنوات في مصر وهو مرابط ومجاهد هناك في حصون الشام، يقول القاضي ابن شداد: لما رأيت البحر في عكا وكان أول يوم أرى فيه البحر قال: لو قيل نعطيك ملك الدنيا كله في سبيل أن تخوض البحر ميلاً واحداً قال: والله ما استطعت ذلك، قال: فلما وقف صلاح الدين الأيوبي قال: أتدري ما أمنيتي؟ قال: لا، قال: إذا أكملت فتح بقية الساحل قسمت البلاد بين أولادي وودعت وأوصيت، ثم ركبت البحر فلا أدع جزيرة يكفر فيها بالله عز وجل إلا وأدخلتهم في دين الله عز وجل.
قلت له: يا أمير المؤمنين! إنك سور الإسلام ومنعته، وفي هذا خطر على الإسلام.
قال: ما هي أشرف الميتات؟ قلت: الشهادة في سبيل الله عز وجل، قال: حسبي هذا.
وظلت القدس في أيدي المسلمين حتى أيام الدولة العثمانية، ولما فككت الدولة العثمانية دخل الجنرال اللنبي قائد القوات الصليبية في (٩) ديسمبر سنة (١٩١٧م) مدينة القدس، ثم ذهب إلى قبر صلاح الدين وركله بقدمه وقال: الآن انتهت الحروب الصليبية يا صلاح الدين.
وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه رُسم الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريق المصاحف فيه طيب