[ذكر وقت احتلال الصليبيين للقدس ودور آل زنكي وصلاح الدين في تحريرها منهم]
لقد كان أول احتلال للصليبيين للقدس في يوم الجمعة سنة (٤٨٢هـ) وكان في عهد الفاطميين غلاة الشيعة الزنادقة المارقين بمصر، ويومها سلموا القدس للصليبيين ولم يدافعوا عنها، ولم يقاتلوا في سبيلها، ولم يرفعوا سلاحاً في وجه الصليبيين، فتكالبت الجيوش الصليبية على احتلال بيت المقدس، واحتلوا الرها أول مدينة احتلت من بلاد الشام، ثم احتلوا أنطاكية، ثم دخلوا إلى بيت المقدس بعد حصار أربعين يوماً، ولما دخلوها لم يوفوا للمسلمين بأي عهد، حتى سار القائد الصليبي الذي فتح بيت المقدس في شوارع القدس وصار الدم إلى ركبتيه، وقتلوا سبعين ألف مسلم، وجعلوا الصليب على قبة الصخرة، وجعلوا من المحراب مربطاً لخيولهم وخنازيرهم، وبقي الصليبيون (٩١) سنة في القدس، وفعلوا بالمسلمين الأفاعيل.
وهناك رسالة دكتوراه محضرة في جامع الأزهر عن الحقد الصليبي تثبت أنه في أثناء احتلال الصليبيين لمدينة معرة النعمان ذبحوا بعض المسلمين وشووهم وأكلوا لحومهم، وهذا ثابت، وهو ينم عن الحقد الصليبي والتعصب الصليبي ضد الإسلام والمسلمين.
ثم بدأ المسلمون يستيقظون في عهد عماد الدين زنكي، واستردوا مدينة الرها، وهي أول مدينة استردوها من الصليبيين، وفرح المسلمون فرحاً عظيماً، حتى سموها فتح الفتوح، ثم مات عماد الدين زنكي قبل أن يكمل تحرير بيت المقدس، فتولى الأمر من بعده ولده نور الدين محمود زنكي سلطان الشام، وكان صلاح الدين الأيوبي عاملاً من عمّاله فأرسله إلى مصر مع عمه أسد الدين شيركوه.
ونور الدين محمود زنكي السلطان الزاهد العابد أعد منبراً ليدخل به بيت المقدس يوم تحريره ليخطب عليه؛ وعندما حاصر الصليبيون مدينة دمياط أرسل إلى أسد الدين شيركوه وصلاح الدين بالجيوش من الشام، واشتد به الأمر واجتمع مع أركان حربه فقالوا له: إن لك حديثاً يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلسلة كلها بالتبسم فتبسم أنت حتى تكمل السلسلة لك قال: إني لأستحي من الله عز وجل أن يراني مبتسماً والفرنج محاصرون لدمياط، يقول عنه إمام مسجده: ولقد امتنع والله عن تناول الطعام والشراب من كثرة الغم والحزن الذي اعتراه.
هذا السلطان العظيم سلطان الشام كانت له مواقف عظيمة في صد الصليبيين، منها: موقعة حارم فقد اجتمع له ثلاثون ألف صليبي يتزعمهم كل ملوك أوروبا، فقتل عشرة آلاف وأسر عشرة آلاف، ولما اشتدت الوطأة في موقعة حارم نزل عن فرسه واحتمى خلف تل وجعل يعفر خده في التراب ويقول: اللهم لا تنصر عبدك محموداً وانصر دينك وعبادك، ما شأن محمود الكلب بين الله وبين عباده؟ فلما اشتد حصار الصليبيين لدمياط رأى إمام المسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: بشِّر نور الدين محمود زنكي بأن الله قد رفع الحصار عن دمياط، قال: قلت: يا رسول الله وما علامة ذلك؟ قال: قل له: العلامة علامة تل حارم؛ قال: فتلقيته عند دخوله المسجد قبيل صلاة الفجر فقلت له: أيها السلطان أبشرك بانتصار المسلمين في دمياط، فقال: وما علامة ذلك؟ قال: إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: قل لـ محمود: العلامة علامة تل حارم يوم أن عفرت وجهك في التراب وقلت: اللهم انصر بلادك ودينك ولا تنصر محموداً ما شأن محمود بين الله وبين عباده؟ هذه القصة ذكرها ابن الأثير وابن كثير والإمام الذهبي في تاريخه.
فخر نور الدين محمود زنكي ساجداً لله عز وجل فرحاً باكياً.
هذا السلطان العظيم كان يكثر التهجد بالليل، وكذلك كانت زوجته عصمة الدين بنت الأتابك خاتون، ففي ذات ليلة قامت امرأته غاضبة من نومها، فسألها عن سر غضبها فقالت: فاتني ورد البارحة فلم أصل من الليل شيئاً، وقال ابن الأثير: إن بعض المسلمين لما دخلوا بيت المقدس أيام أخذ الفرنجة لها سمعوهم يقولون: إن القسيم بن القسيم -يعنون نور الدين محمود زنكي - لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، وإنما لأنه يصف قدمه بين يدي ربه ليلاً، فلا بد أن ربه ناصره علينا.
قال ابن الأثير: فهذه شهادة الكفار في حقه، شهدوا له أن هذا العبد صالح وسينصره الله تبارك وتعالى.