للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دوام ذكر الله بالقلب واللسان]

السبب الثالث: دوام ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان، والعمل والحال، ونصيبك من المحبة على قدر نصيبك من الذكر، قال ذو النون: من شغل قلبه ولسانه بالذكر قذف في قلبه نور الاشتياق إليه.

وقال إبراهيم بن الجنيد: كان يقال: من علامات المحبة لله دوام الذكر بالقلب واللسان والجوارح.

وقال إبراهيم بن أدهم: أعلى الدرجات: أن يكون ذكر الله عندك أحلى من العسل، وأشهى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف.

وقال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:٤١ - ٤٢].

وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:٤٥].

يا من يذكرني بعهد أحبتي طاب الحديث بذكرهم ويطيب أعد الحديث علي من جنباته إن الحديث عن الحبيب حبيب وكما يقول الشاعر: خطرات ذكري تستثير مودتي وأحس منها في القلوب دبيباً لا عضو لي إلا وفيه صبابة فكأن أعضائي خلقن قلوباً يقول ابن معاذ الرازي: عفوه يستغرق الذنوب فكيف رضوانه؟! ورضوانه يسع الآمال، فكيف وده؟! ووده ينسي ما دونه فكيف حبه؟! وحبه يدهش العقول فكيف لطفه؟! يقولون يحيى جن من بعد صحة ولا يعلم العذال ما في حشائيا إذا كان دار المرء حب مليكه فمن غيره يرجو طبيباً مداويا مع الله أقضي دهره متلذذاً تراه مطيعاً كان أو كان عاصيا ألا فاهجروني وارغبوا في قطيعتي ولا تكشفوا عما يجن فؤاديا ألا فاهجروني وارغبوا في قطيعتي وخلوا عناني نحو مولى المواليا يقول يحيى بن معاذ الرازي: لو أدركت القلوب كنه المحبة لخالقها لانخلعت مفاصلها ولهاً، ولطارت الأرواح إليه من أبدانها دهشاً، سبحان من أغفل الخليقة عن كل هذه الأشياء، وألهاهم بالوصف عن حقيقة هذه الأنباء.

ويقول رحمه الله: يا من رباني في الطريق بنعمه! وأشار لي في الورود إلى كرمه، معرفتي بك دليل عليك، وحبي لك شفيع إليك.

هذا الإمام الذاكر العابد لله تبارك وتعالى يقول: إلهي إني مقيم بفنائك، مشغول بثنائك، فقير أخذتني إليك، سربلتني بمعرفتك، وأمكنتني من لطفك، ونقلتني في الأحوال، وقيدتني في الأعمال ستراً وتوبة، وزهداً وشوقاً ورضاً ورضاء وحباً، تسقيني من حياضك، وترويني في رياضك، ملازماً لأمرك، مشغوفاً بقولك، ولما طر شاربي، ولاح طائري، فكيف أنصرف اليوم عنك كبيراً، وقد اعتدت هذا منك صغيراً؟! فلي ما بقيت حولك دندنة، وبالضراعة إليك همهمة؛ لأني محب، وكل محب بحبيبه مشغوف، وعن غير حبيبه مصروف.

وفي الحديث الذي حسنه الشيخ الألباني: (أكثر من ذكر الله حتى يقال إنك مجنون).

إذا كان حب الهائمين من الورى بليلى وسعدى يسلب اللب والعقل فماذا عساه يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى أحن بأطراف النهار صبابة وفي الليل يدعوني الجوى فأجيب وأيامنا تفنى وشوقي زائد كأن زمان الشوق ليس يغيب تملكتمو عقلي وطرفي ومسمعي وروحي وأحشائي وأعضاي باجمعي وتيهتموني في بديع جمالكم ولم أدر في بحر الهوى أين موضعي هذه أيام ذكر، والإنسان يردد بالذكر في هذه الأيام قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك وسعديك والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل، لبيك إله الحق، لبيك إنما العيش عيش الآخرة، لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل.

ومعنى التلبية: متقرب إليك، مخلص لك، محب لك، مقيم على طاعتك، اتجاهي وقصدي إليك.

وقد اختلف أهل العلم هل تشرع التلبية بالتسبيح والأذكار والتهليل والتدبير في هذه الأيام أم لا؟ فاستحبه الإمام أحمد على الإطلاق، وقيده الشافعي برؤية بهيمة الأنعام.

وروى الإمام البخاري أن أبا هريرة وابن عمر كان يدخلان السوق فيكبران ويكبر أهل السوق لذلك.

وكان العلماء سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد يدخلون السوق فيكبرون لا يدخلون إلا لذلك.

فهذه أيام ذكر لله عز وجل.

كما أنها أيام صوم، فهذه الأيام التسع كان يصومها عبد الله بن عمر ويكملها صوماً، والغالب من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصل الصوم في هذه الأيام، وهذه أيام ذكر لله عز وجل، فأكثر من ذكر الله عز وجل، وسيدنا أبو هريرة كانت له في اليوم والليلة اثنتا عشرة ألف تسبيحة.

وكانت رابعة بنت إسماعيل -زوجة الإمام أحمد بن أبي الحواري تليمذ الإمام أحمد - ريحانة الشام إذا طبخت قدراً من الطبيخ تقول لزوجها: كله يا سيدي، فوالله ما نضج إلا بالتسبيح.

وعندما تجلس زوجة الواحد منا بجوار (البوتجاز) وهي مشغولة بذكر الله عز وجل يغرس لها نخل في الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة).

وما عرف التاريخ اسم زوجة الإمام البخاري، ولا اسم زوجة سفيان الثوري، ولا أنهما كانتا تجيدان المصطلح، وهذا الكلام لو أجدته لكان شرفاً عظيماً جداً، لكن الأساس أنها تعرف ما يصح به العقيدة، وجانب العبادات، ثم نريدها بعد ذلك عابدة، وبعدما تكون عابدة لو أخذت هذا العلم فهو خير عظيم، لكن أقل شيء أن يكون لها حال مع الله عز وجل في العبادة، فعندما يكثر منها الذكر، وقراءة القرآن، والصيام والقيام، والصمت، تتنزل عليها الرحمات، وتطيع زوجها، بعد هذا ممكن لها أن تطلب العلم، فيكون نزل على أرض صالحة للزراعة، ولكن أن تهتم بالعلم بدون عبادة ما ينفع، هذا ما ينفع عند الرجال فكيف عند النساء؟ نريدها عابدة، كما يقول أحمد بن أبي الحواري: والله إني ليرق قلبي بالنظر إلى وجه امرأتي أكثر مما يرق بالحديث مع إخواني؛ لما أرى عليها من كثرة الذكر والعبادة.

أما في هذا الوقت فإن الواحد منا أول ما تولد له زوجته ولداً ويبدأ يخطو تضيع عليه الركعة الأولى، وأول ما يقرأ ويكتب تضيع عليه الجماعة الأولى، وأول ما يتزوج فقد ركب السفينة، وأول ما يخلف وينجب من زوجته تقول له زوجته: ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الولد مجبنة مبخلة)؟ وهذا شيء مفروض وهو حب الولد، وحصر المساجد قد أخذت منك وقتاً كبيراً، وأنت من زمان تصلي جماعة، والجمهور يقولون بجواز الصلاة جماعة في البيوت، وأنا وأنت جماعة! واسأل الله أن يحفظ لنا ولدنا، ويمكن أن يكون مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، أو ابن باز أو الألباني! فالشيطان قد يأتي من هنا، فكيف سيكون كذلك وأبوه استنوق الجمل، وتمخض الجبل فولد فأراً، لما أبوه ناخ هو يطلع ابن تيمية!! وقد قيل: إن فساد البداية علامة على فساد النهاية.

قيل لـ وهيب بن الورد: فلان عرف طريق الله ثم عاد منه، قال: لو وصلوا إليه ما رجعوا.

وتذكر أن امرأة فيها ضعف النساء تقول: يا إبراهيم آلله أمرك بهذا؟ فيقول: نعم.

فتقول: إذاً فلن يضيعنا.

فالأمر يحتاج إلى صدق مع الله عز وجل، هذه الدعوة تحتاج منا إلى الكثير والكثير، سيدنا إبراهيم عليه السلام ضحى بابنه الذي أعطيه على الكبر، فأبقى الله له هذا الولد الطيب، وأعطاه أخاً له وابن أخيه، فمتعه الله بولد ولده في حياته، بل جعل النبوة والكتاب فيهما فقط، وأعطاه يعقوب، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده) فيسأل الله عز وجل درجة الإيثار وأعلاها لأولي العزم: للخليلين إبراهيم ورسولنا صلى الله عليه وسلم، فيقوم بدين الله كله كما كان سيدنا إبراهيم عليه السلام، فقد قدم ماله للضيفان، وولده للقربان، وجسمه للنيران، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أوقف الأنفاس والحركات والسكنات والهم لله عز وجل، فإيثار محاب الله على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى مراقيه وإن صعب المرتقى، ثم بعد ذلك مطالعة القلب للأسماء والصفات، ومشاهدتها ومعرفتها.

يقول الإمام ابن القيم: المعرفة: فعل القلب أن يعلم الإنسان ثم يطبق ما يعلم، فيبقى علمه مصحوباً بعمل، كما قال الإمام ابن القيم علم مصحوب بعمل؛ لما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله).

وفي رواية: (أعرفكم بالله).

قال الإمام البخاري: المعرفة: فعل القلب، أو عمل القلب، أن تعرف أسماء الله عز وجل وصفاته، وأن تعمل بها، وتتقلب في بساتين ورياض هذه المعرفة، وهذا العلم من أشرف العلوم الشرعية، فعلم الأسماء والصفات ليس مجرد ذكر للأسماء والصفات، أو أنك تقول: بدون تأويل ولا تحريف ولا تعطيل، ولا تفويض، فاسم الله الملك يعني: أن الله عز وجل له ملك الدنيا والآخرة، له ملك السماوات السبع، والأراضين السبع وما بينهما، وما تحت الثرى، وما فوق السماوات السبع، فهو المالك وهو الملك، تعلم هذا، وتعلم أن كل من نازع الله عز وجل في كبريائه أو في ردائه قصمه الله عز وجل، عندما تقف طويلاً أمام اسم مثل الملك، وأن ملك الله عز وجل غير محدود، وملك غيره محدود وفانٍ، وملكه سبحانه لا ينقص منه شيء رغم جوده وكرمه، وكيف ينقص ملك هو قيمه، أبخيل فيبخله عبده؟! أليست الدنيا والآخرة والكرم والجود والفضل بيده؟ عندما تنظر في اسم الملك تعرف منه دينونة الكائنات كلها لله عز وجل ورب عليم بذات الصدور يدين لعزته الكابر يدين له الفرخ في عشه ونسر السماء الجارح الكاسر يدين له النجم في أفقه