[ما يجب على المؤمن تجاه البلاء والرخاء]
قال سفيان: ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة.
وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
فالله يرزق الإنسان المال فيشكر، وإن رزقه الفقر يصبر، لكن هناك درجة أعلى وهي هذه التي قال عنها سفيان: ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة، والرخاء مصيبة، فهناك درجة أعلى من درجات الصبر، وهي الرضا بما قدر الله عز وجل عليك، فإن ابتلاك بمصيبة تعلم أن هذا خير لك، وإن ابتلاك بمال أخذت حذرك؛ لأن البلاء لا يأتي إلا برفعة الدرجات أو تكفير السيئات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا حزن ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه)، فالبلاء دائماً يأتي بتكفير السيئات أو بعلو الدرجات، لكن إذا كنت على معصية واستمررت عليها مع زيادة المال عندك، فإنه استدراج ومكر من الله عز وجل، فالظالم كلما ازداد مالاً ازداد فجوراً، حتى إذا أخذه الله لم يفلته، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:٤٢ - ٤٣].
ولذلك ورد في الأثر أن خالد بن الوليد كانت عنده زوجة فطلقها، وبعد أن طلقها أثنى عليها، فلما سئل عن ذلك قال: مكثت عندنا مدةً لم نصب فيها بشيء، فخفت أن يكون الأمر استدراجاً ومكراً من الله عز وجل.
وعروة بن الزبير لما قطعت رجله ومات ابنه محمد أحب أبنائه إليه، رفع يديه إلى السماء وقال: إن سلبت فلطالما أعطيت، وإن أخذت فلطالما أبقيت، ولما أشار عليه الطبيب بنشر رجله قال أي: الطبيب: نريد أن نعطيك دواءً -يعني: حتى لا تحس بألم القطع- قال: إن ربي ابتلاني ليرى مدى صبري.
فإذا ضيق الله عز وجل عليك في الرزق فقد يكون هذا هو الخير لك، فقد تصلي في الفجر فتستغيث بالله عز وجل وتقول: يا غياث المستغيثين أغثنا، اللهم فرج الكرب عنا، وترفع يديك إلى السماء تدعو الله تبارك وتعالى فيتعلق قلبك بالله عز وجل، وربما كان هذا خير لك من كنوز الدنيا بأسرها، فقد تكون كمثل أحد الصالحين كان يقوم الليل ولم يكن معه إلا ثوب واحد به رقع، ولما ضربه البرد بكى، فرأى فيما يرى النائم أن هاتفاً يقول له: أقمناك وأنمناهم ثم تبكي علينا! حقاً إن المال الصالح للرجل الصالح، ولكن المال من أعظم الفتن، فربما تترك الصلاة، أو تتأخر فتدرك ركعة أو ركعتين، أو تدرك الجماعة الثانية، أو لا تأتي المساجد أبداً؛ لأنك منشغل فتصلي في البيت أو في أي مكان، فليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة، الرخاء مصيبة.
وهناك كلام للعلماء يشبه هذا الكلام، قال إبراهيم بن أدهم لما قابل شقيق البلخي: ما تعدون الصبر والشكر فيكم يا شقيق؟ قال: إنا قوم نشكر في الرخاء ونصبر في البلاء، فقال له إبراهيم: هذا ما تفعله كلاب بلخ، قال: فما تقول أنت؟ قال: إنا قوم نشكر في البلاء ونصبر عند الرخاء، فربما كان الرخاء استدراجاً.
وهذا ليس مخالفاً للسنة، ودليل ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الصالحين كان يشدد عليهم، يبتلى أحدهم بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها) أي: يقطعها لتستر عورته، (ويبتلى أحدهم بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أفرح بالبلاء إن نزل به من فرح أحدكم بالعطاء)، إذاً: كلام سفيان موافق لهذا الحديث، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.