[من أسرار الحروف المقطعة في بداية السور]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: يقول العلامة ابن القيم في كلام له طيب في أسرار الحروف من كتابه بدائع الفوائد يقول: تأمل سر (الم) كيف اشتملت على هذه الأحرف الثلاثة، فالألف التي بدأ بها أولاً مصدرها من أقصى الحلق، وهي أول المخارج من أقصى الحلق، واللام من حروف اللسان، ومن وسط مخارج الحروف منها، وهي أشد الحروف اعتماداً على اللسان، والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم من الشفتين.
إذاً: الهمزة مخرجها من أقصى الحلق، واللام مخرجها من اللسان، والميم مخرجها من الشفتين وهذه الثلاثة هي أصل مخارج الحروف، الحلق واللسان والشفتان، ثم ترى الترتيب الألف أولاً، ثم اللام الوسط، ثم الميم، فترى الترتيب في النزول من البداية إلى الوسط إلى النهاية.
يقول العلامة ابن القيم: فإن للألف البداية ولللام التوسط وللميم النهاية، فاشتملت هذه الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة، وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف الثلاثة مشتملة على بدء الخلق ونهايته والتوسط فيه، ومشتملة على تخليق العالم، وعلى الغاية من خلقه، وعلى التوسط بين البداية والنهاية من التشريع والأوامر، وقد اشتمل على ذلك كل سورة بدأت بـ (الم) مثل البقرة، وآل عمران، وتنزيل السجدة، وسورة الروم.
ثم يقول: فإذا أتيت إلى سورة (ق) تجد السورة كلها مبنية على الكلمة القافية، و (ق) هو الحرف الغالب في سورة (ق): من ذكر القرآن، وذكر الخلق، وتكرير القول، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين قول العبد، وذكر النقيض، وذكر القلب والقرون، والتنقيب في البلاد، والقيل، وتشقق الأرض، وإلقاء الرواسي فيها، وسوق النخل، والرزق، وذكر القوم، وحقوق الوعيد، والقول والمحاورة، فترى حرف القاف هو الغالب على سورة (ق).
قال: وكل معاني هذه السورة مناسب لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعلو والانفتاح.
قال: ثم تعال إلى سورة (ص) وما فيها من الخصومات المتعددة التي تناسب حرف الصاد، وفيها نبض الصاد.
فأولها: خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم، واختصام الخصمين عند داود، وتخاصم أهل النار، واختصام الملأ الأعلى في العلم والدرجات والكفارات، ومخاصمة إبليس لربه واعتراضه على أمر السجود، ثم خصامه ثانياً في شأن بنيه، وقوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:٨٢] إلا أهل الإخلاص.
قال ابن القيم: فليتأمل اللبيب الفطن هل يليق بهذه السورة غير (ص)، وبسورة (ق) غير حرفها؟!! قال ابن القيم: وهذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف، والله أعلم.
هذا قول سيدنا وتاج رأسنا العلامة ابن القيم السابح في بحار القرآن الكريم.