[تفسير قوله تعالى: (ما زاغ البصر وما طغى)]
قال تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:١٧].
زيغان البصر: الالتفات يميناً ويساراً عن محدثه، وطغيان البصر: أن يرتفع وينظر فوق محدثه.
شخص يكلمك فمن الأدب أن تجعل نظرك إلى ناظريه، وألا تلتفت يميناً ولا يساراً عنه، وألا تنظر فوقه.
يأتي شخص أول مرة يدخل مثلاً مصر الجديدة، ويأتي إلى العمارات الشاهقة وغيرها من الأماكن فيقف متعجباً، ينظر ويقول: أشياء ليست موجودة في بلدنا، ويحدق ناظريه إلى أعلى وإلى أسفل، فما ظنك بمن اختلق السماوات السبع، وقد أدب الله عز وجل بصره، فلم يلتفت إلى غير محدثه صلى الله عليه وسلم.
ولذلك تجد العلماء الذين يكتبون في الرقائق عندما يتكلمون عن الأدب يتكلمون عن أدب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: قال ابن القيم: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:١٧] وهذا كناية عن أدب النبي صلى الله عليه وسلم (ما كذّب الفؤاد ما رأى) ما كذّب الفؤاد ما رآه البصر.
والدين كله أدب، فمن زاد عليك في الأدب فقد زاد دينك، قال عبد الله بن المبارك: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم، وقال: طلبنا الأدب حينما فاتنا المؤدبون.
وقال بعض أهل العلم: من أساء الأدب على الباب رُد إلى سياسة الدواب.
الذي لا يعرف أن يجالس الملوك، يقال له: اذهب إسطبل الخيول والحمير، فهذا أولى به.
وقالوا: من ترك الأدب عوقب بحرمان السنن، والله تبارك وتعالى صدر هذه السورة بعد القسم بقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:١٧] يدل على كمال العلم والعمل.
وليس هناك انحراف في العلم ولا في العمل، فبعض الناس يتصورون أن السلفية أنك تحشو نفسك بالعلم وانتهى الأمر، وهذا فهم خاطئ، فحين يتصور كل إنسان منا أنه سيكون الألباني أو ابن باز فهذا دمار للدعوة السلفية، أو أن كل الناس سيكونون محدثين، فهذا دمار للدعوة السلفية؛ لأنه تختلف الإمكانيات والمدارس ومدارك الناس، فهذا رجل قدرته خطبة الجمعة، ويجيد فيها، وهذا آخر قدرته درس علمي بحت، يربي الأجيال والكوادر، لا يستطيع أن يربيها من يخطب الجمعة، وهناك شخص آخر عنده من الورع فوق هؤلاء، فالدعوة السلفية إذن تستوعب مثلاً التاجر، والفاكهاني، وصاحب عصير القصب.
قد يكون هناك شخص أصبح علم الطب فرض عين عليه، فهل أقول له: اطلب العلوم الشرعية وأهمل الطب؟ والشريعة تضمن الطبيب الجاهل، فإذا قتل رجلاً فإنه يدفع الدية لأهله.
اليهود الآن عندهم القنبلة النووية، وإمكانيات المسلمين متواضعة؛ بسبب الفهم السيئ، لماذا لا يوجد عندك كوادر في كل مجال علمي؟! يعني: هب أن الناس قالوا: يا أصحاب اللحى! تعالوا أقيموا دولة الإسلام، فلابد أن توجد عندك كوادر تقيم بها هذه الدولة، لنتكلم بصراحة، هل عندك كوادر تقيم بها الدولة أم عندك كوادر علمية؟ إعداد في مجرد دعاوى، والدعاوى يحتج لها ولا يحتج بها، أنت هل عندك كوادر علمية تمسك القضاء الشرعي؟ كم عندك من الأشخاص أكملوا فقه السنة؟ ولا يمكن أن تمثل قاضياً شرعياً يقضي بين الناس في الدماء والحقوق وتقول: أخذت فقه السنة فقط! لا يمكن.
لابد أن تكون على الأقل مجتهداً في المذهب فتكون قاضياً له حق الاجتهاد، فما الذي عندك أنت؟ ممكن تجد ألف خطيب جمعة، ولكن القاضي الشرعي لا تجده، لا يوجد عندك هذه الكوادر، إذاً: لا في العير ولا في النفير، إنما هي دعاوى فقط! فنقول: اتقوا الله تبارك وتعالى، إن دولة الخلافة التي أسقطت واحتاجت إلى سنوات طويلة لإسقاطها، تحتاج كذلك إلى عشرات السنين لقيامها.
وكما قال العلامة ابن القيم: يأبى عدل الله -وهذا في عصر الإمام ابن القيم - أن يولي علينا أمثال معاوية رضي الله عنه، فضلاً عن أبي بكر وعمر، فإن ولاتنا على قدرنا، وولاة السلف على قدرهم، وكأن أعمالنا ظهرت في جنس عمالنا، الحركات الإسلامية تجد مثلاً شخصاً في الجامعة، يقول لك: نحن أخذنا مسجد الجامعة! طيب: يا أخي! هذا تبع الأوقاف، لا تبعي ولا تبعك، أعطني فرصة لأتكلم فيه، أنت وريث المسجد لأبيك؟ أما إذا قامت هذه الدولة فماذا سنعمل فيما بيننا؟ فالاهتمام بالعلم فقط لا يكفي، نعم، اهتم بالعلم، ومع العلم العمل بهذا العلم؛ والورع أن تنشئ جيلاً ربانياً ورعاً، متهجداً بكاءً، يرفع يده إلى السماء فيستجيب الله عز وجل له.
كان سيدنا محمد بن واسع زين القراء، فلما اصطف الناس لفتح كابول عاصمة أفغانستان الآن، قال قائد الجيش: أين محمد بن واسع؟ قالوا: هو في أقصى الميمنة رافعاً إصبعه إلى السماء، قال: أبشروا فقد جاء النصر، هذه الأصبع أحب إلي من ألف سيف شهير وشاب طرير، ففتحت بدعوة محمد بن واسع وضيعتها اللحى في عصرنا هذا! بعدما طرد الروس أحمد شاه مسعود ذهب إلى أمريكا وبريطانيا وفرنسا من أجل أن يعطوه قوات ويمدوه بالسلاح، من أجل أن يقوي نظام المعارضة في أفغانستان، حتى قال الناس وقتها: لو أنكم أمسكتم الدولة ستكونون مثل الأفغان، وأنت معك لحية مثل لحية سياف أو شاه مسعود أو كذا، فهذا قول العوام، والعوام معذورون.
فأنا أقول لك: لابد من الورع إلى جانب العلم، ومن تفويض الأمر لله تبارك وتعالى.
كذلك من ضمن المسائل التي أتت على الدعوة ما حصل بين الشيخ ربيع بن هادي المدخلي والشيخ سلمان العودة وسفر وغيرهما، هذه المسائل لو وجد الصدق مع الله تبارك وتعالى لحلت في جلسة واحدة، في وجود مثلاً الشيخ ابن باز، فلو وجد تجرد لله عز وجل لحلت، لكن أن يصل الأمر في مصر إلى أن يأتي شاب عمره سبع عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة فيقف ويقول للشيخ محمد بن إسماعيل المقدم أنت ما هو اتجاهك؟ فيقول له: عندك كلامي في التوحيد قبل أن تخلق، أيام ما كنت في بطن أمك؟! وفي أمريكا كنت أعطيهم درسهم الأسبوعي عن طريق الهاتف، فيسألني أحدهم عن الخلافات التي عندنا؟ فقلت له: اترك الخلافات التي عندنا، وحاسب نفسك لنفسك، فإن غيرها من الأنفس عليها حسيب غيرك.
كذلك في الجزائر لا تدخل إلا أشرطة جماعة معينة، والجماعة الأخرى أشرطتها ممنوعة حتى أشرطة اللجنة العامة للدعوة والإرشاد في السعودية لا تدخل؛ لعدم التجرد لله تبارك وتعالى، وعدم وجود الورع، فهم أناس عندهم علم وليس عندهم تقوى.
كم من الذين يتعلمون يصلون الفجر؟! كم من المبرزين في العلم يصلون الفجر؟ الأمر يحتاج إلى علم وعمل، واهتمام بالقلب حتى لا يقسو، وإذا كان عندك من العلم أطنان فإنها لا تنفع، فهذا العلم عليك لا لك، وهذا العلم يعطيك رسم العلم وظهوره، ويخفي عنك بركته ونوره.