حياء الإجلال، وهذا يكون على قدر العلم والمعرفة، كحياء سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال رضي الله عنه: والله إن كنت لأشد الناس حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ملأت عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا راجعته بما أريد حتى لحق بالله عز وجل؛ حياء منه.
ويقول أيضاً في رواية: إنه لم يكن شخص أبغض إلي من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أسلمت لم يكن شخص أحب إلي منه ولا أجل في عيني منه، ولو سئلت أن أصفه لكم ما استطعت؛ لأني لم أكن أملأ عيني؛ إجلالاً له.
وهذا كما قال الشاعر: أشتاقه فإذا بدا أطرقت من إجلاله لا خيفة بل هيبة وصيانة لجماله الموت في إدباره والسعد في إقباله وأصد عنه إذا بدا وأروم طيف خياله فلم يكن يرفع نظره إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ إجلالاً لمقام النبوة، وحياء من النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذا فعل سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شجرة تشبه المسلم، فوقع الصحابة في شجر البادية، وقال سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت لمقام كبار الصحابة، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
فهذا حياء الإجلال.
ومنه حياء سيدنا عبد الرحمن بن مهدي -أمير المؤمنين في الحديث- من شيخه سفيان الثوري، فقد كان عبد الرحمن بن مهدي يحضر درسه تسعون ألفاً ومعهم المحابر، وكان إذا لقي شيخه سفيان الثوري لا يستطيع أن يرفع نظره إليه؛ هيبة وإجلالاً له.
فهذا الذي كان يحضر له تسعون ألفاً ما كان يستطيع أن يرفع نظره في وجه شيخه سفيان الثوري، مع أن سيدنا سفيان الثوري قال عنه يحيى بن أبي غنية: كان أصفق الناس وجهاً في ذات الله عز وجل، يعني: كما يقولون: وجهه منزوع منه الحياء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يعرف فيه حتى أباه.
ودخل مرة على الخليفة المهدي وهو من هو، فأغلظ له القول، وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، فقال له وزير الخليفة أبو عبيد الله: لقد شققت على أمير المؤمنين بمثل هذا؟ فقال: اسكت، فما أهلك فرعون إلا هامان، وبعد أن انصرف سفيان الثوري قال الوزير أبو عبيد الله: يا أمير المؤمنين! ائذن لي أن أضرب عنقه، قال: اسكت، وهل بقي في الأرض من يستحيا منه غير هذا؟ يقول: كلما جاءنا رجل أو عالم يعظنا ويزهدنا في دنيانا إذا ما قدمنا له شيئاً من دنيانا قبله، إلا سفيان فإنه ما أخذ من دنيانا شيئاً، فهو أجرأ الناس علينا من أجل هذا.