وبعد حطين فتح عكا ودخلها وأُذن فيها لصلاة الجمعة بعد غياب ثلاث وسبعين سنة، ثم بعد ذلك بدأت جيوش صلاح الدين الأيوبي تنظر إلى القدس، وفي ١٥ رجب جاء بستين ألف مقاتل وقفوا حول أسوار القدس، وفي السابع والعشرين من رجب (سنة ٥٨٣هـ) فتح القدس، وأصح الأقوال هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام ابن بطة والإمام ابن رجب الحنبلي إن السابع والعشرين من رجب لم يكن يوم الإسراء وإنما كان يوم فتح صلاح الدين الأيوبي للقدس.
وقف المسلمون على أسوارها، ولما قتل أمير من أمراء المسلمين المجاهدين في سبيل الله عظم ذلك عند المسلمين واشتد بهم الحنق والغيظ، فبدءوا يثقبون الأسوار، ويستعينون بالمجانيق علهم يقتحمون هذا السور، وبالفعل سقط السور من قبل صلاح الدين الأيوبي من ناحية بلاد الشام الأخرى، فبرز قائد الجنود الصليبيين بليان بن برزان، وأراد أن يؤمنه صلاح الدين الأيوبي فقال: خذها صلحاً.
قال صلاح الدين: والله لا آخذها إلا عنوة كما دخلتموها عنوة.
فسيدنا صلاح الدين الأيوبي عندما دخل عكا فك أربعة آلاف أسير مسلم، وعندما أتى عند القدس قال: لا آخذها إلا عنوة كما أخذتموها عنوة، أي: مثلما قتلتم المسلمين بها، وكانوا قد قتلوا سبعين ألف مسلم حينما دخلوا القدس حتى غاصت الركب في دماء المسلمين وجعلوا من قبة الصخرة مكاناً لخيولهم وخنازيرهم، وقالوا: دون قمامة فلتقم القيامة.
فقال صلاح الدين: لا آخذها إلا عنوة مثلما أخذتموها عنوة.
فقال له بليان بن برزان: إذاً نقتل من كان عندنا من المسلمين -وكان عندهم خمسة آلاف أسير مسلم- ثم نذبح نساءنا وأطفالنا، ثم نكسِّر الصخرة ونهدم القبة ونهدم المسجد، ثم نعمي بئر بيسان ثم نخرج إليك في الصحراء، وهنا رق صلاح الدين الأيوبي لأسرى المسلمين، ووافقهم على الصلح بشرط أن أي واحد يخرج منهم خارج القدس يدفع عشرة دنانير جزية، والمرأة خمسة دنانير، والصبي أو الصبية دينارين، وأعطاهم مهلة أربعين يوماً والذي لا يستطيع ذلك يقع في أسر المسلمين، فرحلوا كلهم عن القدس، ووقع الذين عجزوا عن دفع الجزية في أسر المسلمين وهم ستة عشر ألف أسير، فكان عددهم كبيراً، وقد باع رجل من فقراء المسلمين أسيره بزربول -أي: فردة نعل- حتى يُعلم أن كثرة الأسرى بلغ من ذلهم وهوانهم أن يُباع الأسير بزربول، وترك الناس الأبقار والإبل من كثرتها واشتغلوا بالأسرى، وكان الرجل وزوجه وأولاده الخمسة يباعون بثمانين درهماً، وكان الفلاح يأتي بطنب خيمة ويربط فيه نيفاً وثلاثين أسيراً فيجرهم بعمود خيمة، والحارس من المسلمين يحرس المائتين ولا يهربون خوفاً من بطشه.
وفتحت القدس يوم الجمعة ولكن صلاح الدين الأيوبي لم يستطع أن يصلي الجمعة؛ لكثرة ما كان فيها من الخنازير وحيض النساء فاشتغل أسبوعاً كاملاً ينقل ما فيها من النجاسات، ثم غسل المسجد وقبة الصخرة بالماء العادي، ثم بماء الورد الطاهر وبالمسك الفاخر، ثم صدر المنشور الصلاحي للقاضي محيي الدين بن الزكي القرشي بأن يتولى الخطابة في أول جمعة من شعبان بعد يوم الفتح بثمان، وجرت الدموع غالية، فهل من عودة لأيام صلاح الدين الأيوبي؟ رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجندك في حطين صلوا وكبروا وتبكيك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبر حصانك في سيناء يشرب دمعه ويا لعذاب الخيل إذ تتذكر