يقول ابن القيم: قد ذكر غير واحد من أهل العلم منهم أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي وغيره: أن أعمال الرسل والأنبياء والمؤمنين في الدنيا أفضل من نعيم الجنة أي: أن أعمال المؤمنين في الدنيا من صلاة، وزكاة، وجهاد نفس، ومحبة لله عز وجل، وشوق إلى الله عز وجل: أفضل من نعيم الجنة، لماذا؟ قال: لأن نعيم الجنة حظ الناس من الله عز وجل وتمتعهم، فأين يقاس إلى الإيمان؟ حظ الناس من التمتع والأكل والشرب ونكاح الحور العين أين يقاس مع الإيمان وأعماله، والصلوات، وقراءة القرآن، والجهاد في سبيل الله؟! فالإيمان متعلق به سبحانه، وهو حقه على العباد.
ونعيم الجنة متعلق بهم وهو حظهم، فهم إنما خلقوا للعبادة وعلى الطرف الآخر قال الله تبارك وتعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}[طه:١٢٤] جمهور المفسرين فسروها أنها عذاب القبر.
قال ابن القيم: والحقيقة أن المعيشة الضنك في الدور الثلاث، فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله فله من ضيق الصدر، ونكد العيش، وكثرة الخوف، وشدة الحرص والتعب على الدنيا، والتحسر على فواتها قبل حصولها وبعد حصولها، والآلام التي في خلال ذلك ما لا يشعر به القلب لسكرته وانغماسه في السكر، فأي عيش أضيق من هذا العيش لو كان في القلب شعور؟! في قلبه الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة، فهو في جحيم قبل الجحيم الأكبر:{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ}[النمل:٧١ - ٧٢] ذقتم قليلاً من العيش النكد قبل الجحيم الأكبر في الدار الآخرة.
يقول ابن القيم: فهذا المتاع ذاته شقوة في الدنيا والآخرة، غصة تعقبه، وعقابيل تتبعه، يتخبط في القلق والحيرة والتكفؤ والاندفاع من طرف إلى طرف، ضنك الانقطاع عن الله عز وجل، وضنك القلق والشك والحرص والحذر والحسرة على كل ما يفوت، هو منكوس موكوس منحوس، عنده غبش ولبس في الرؤية وتأرجح في الخطوة، وحيرة وشرود في الاتجاه، وطريق بهيم لا معالم فيه.
قولوا للناس: من وجد الله فماذا فقد؟! ومن فقد الله فماذا وجد؟!! كما لا يجتنى من الشوك العنب، لا ينزل الله الأبرار منازل الفجار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من كانت الدنيا همه؛ فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له منها، ومن كانت الآخرة همه؛ جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.