للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضائل الصوم]

قبل أن نتكلم عن هذا الشهر نقول: للصوم فضائل ومزايا، فمنها ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي أمامة الباهلي: (عليك بالصوم فإنه لا عدل له) وفي رواية: (عليك بالصوم فإنه لا مثل له).

فكان أبو أمامة الباهلي لا يرى في بيته نار إلا في حضرة الضيف، ومعنى هذا: أنه كان يسرد الصوم سرداً.

ويحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).

وهذا الحديث ورد بثلاث روايات كل رواية أفادت معنى جديداً: الرواية الأولى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم فإنه لي).

يقول العلماء: قد يأتي الإنسان يوم القيامة وعليه غرماء، فيأخذون من حسناته، من ثواب الصلاة، وقراءة القرآن والذكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما ثواب الصيام فكما قال سفيان بن عيينة: لا يأخذ الغرماء منه شيئاً، بل يختم الله تبارك وتعالى عليه ويدخل صاحبه به الجنة.

الرواية الثانية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به).

فالمولى تبارك وتعالى الجواد الذي جاد بكل من جاد، والذي علا جوده على كل جواد، من تفضّله ومن كرمه على عباده يزيد ثواب الحسنات إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ولا يزيد ثواب أي عمل فوق السبعمائة ضعف بأي حال من الأحوال إلا الصبر؛ لقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:١٠]، والصوم مثل الصبر، بل تجتمع فيه معاني الصبر الثلاثة: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على الأقدار المؤلمة، ولذلك استثنى الله عز وجل ثواب الصوم وزاده فوق السبعمائة ضعف.

الرواية الثالثة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به).

فالصلاة لله تبارك وتعالى، وكل العبادات له تبارك وتعالى، فلم أتى الله تبارك وتعالى إلى عبادة بعينها وهي الصوم ونسبها إلى نفسه دون باقي العبادات؟ إنما هي نسبة تخصيص وتشريف، كما نسب الله عز وجل إلى نفسه البيت الحرام فقال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:٢٦] مع أن كل المساجد لله.

وقال العلماء عن سبب تخصيص الصوم بنسبته لله تعالى: أن الصوم له خاصية ينفرد بها عن بقية العبادات، فحشوه الإخلاص ولا رياء فيه، ومتى صح الصوم من الناحية الفقهية فلا رياء فيه، قال الإمام أحمد: لا رياء في الصوم.

أما الصلاة فقد تصح من الناحية الفقهية ثم يضرب بها وجه صاحبها يوم القيامة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غير الدجال أخوف عليكم شرك السرائر، أو الشرك الخفي، قالوا: وما شرك السرائر يا رسول الله؟! قال: أن يقوم الرجل فيصلي فيطيل في صلاته؛ لما يرى من نظر الرجل إليه).

وأول من تسعّر بهم النار ثلاثة: رجل ظنه الناس مجاهداً في سبيل الله، وآخر ظنوه عالماً وقارئاً، وثالث ظنوه الناس متصدقاً، فهؤلاء أول من تسعّر بهم النار؛ ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إلا الصوم فإنه لي)؛ لأنه عبادة محشوة الإخلاص، وهي عبادة السر كما قال العلماء.

المعنى الذي بعد ذلك: أن الله تبارك وتعالى جبل الإنسان على شهوات البطن والفرج والفم، وكلما تحرر من هذه القيود التحق بالملأ الأعلى، وإن كان في أي عبادة من هذه العبادات لا يتحرر مطلقاً من هذه الشهوات؛ لأنه تكره الصلاة بحضرة الطعام، وفي الحج يمتنع الإنسان عن الجماع ولكنه يأكل لذيذ الطعام، أما في الصيام فينكد نفسه بالساعات حتى يحس ويشعر بألم فقده لهذه الشهوات التي جبل عليها، فطوبى لمن أظمأ نفسه ليوم الري الكامل، وطوبى لمن جوّع نفسه ليوم الشبع الأكبر، وطوبى لمن ترك شهوات حياة عاجلة لموعد غيب لم يره.

يشتد عطشك إلى ما تهوى فارصد آمال الرجاء إلى من عنده ري كامل، وقل: قد عيل صبر الطبع في سنيه العجاف، فعجل لي العام الذي فيه يغاث الناس ويعصرون.

من صام عن شهواته أدركها في الجنة، ومن صام عما سوى الله فذاك عيده يوم لقاء ربه.

وقد صمت عن لذات دهري كلها ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين عاماً) فكيف بصيام ثلاثين يوماً! وفي رواية: (سبعين خريفاً).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة من النار).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله بوعدت عنه النار مسيرة مائة عام).

يحكي أحد الصحابة أنهم كانوا في سرية بحرية، فبينما هم على المركب إذ سمعوا هاتفاً من فوقهم يقول: أيها الناس! ألا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه يوم خلق السماوات والأرض؟ قالوا: أخبرنا إن كنت مخبراً، قال: إن الله تعالى قضى على نفسه أنه من صام يوماً في سبيل الله سقاه الله يوم العطش، يقول الله تبارك وتعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:٢٤].

قال مجاهد: هذه آية الصائمين، تمد لهم موائد الإنعام من رب البرية، والناس ما بعد يحاسبون في عرصات القيامة، كل يا من لم تأكل، واشرب يا من لم تشرب.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) وخلوف الفم: هو تغير رائحته من آثار الصيام، حتى إذا مر الرجل الصائم برجل من أبناء الدنيا من أهل الكروش يقول صاحب الدنيا: ابتعد عني فإن رائحة فمك تؤذيني، فماذا يكون الجزاء؟ يُطيب الطيب بعطر أفواههم، وليس هذا فقط، بل لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك.

وكما يقول مكحول: يروح على أهل الجنة برائحة ما وجدوا خيراً منها، فيقال: يا رب! ما هذه الرائحة؟ فيقال: هذه رائحة أفواه الصائمين، إذا ما انفرجت الشفاه تخرج رائحة تعطِّر الجنة بأسرها، ولا تحتاج الجنة إلى عطر وإنما هذا جزاء تغير رائحة الأفواه في الدنيا.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للجنة ثمانية أبواب، منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون لا يدخل معهم غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق من ورائهم، من دخل منه شرب، ومن شرب لا يظمأ أبداً).

من دخل منهم شرب وهم يحتاجون إلى الشرب في يوم يطول خمسين ألف سنة، ما ذاقوا فيه طعاماً، ولا شربوا شراباً حتى تقطعت أجوافهم عطشاً، وحتى يسمع لصوت الأجواف غليان، يقول سلمان الفارسي: تقول الأجواف: غط غط، وهذا صوت الغليان، فكيف إذا كان الجزاء دخولهم من الريان.

إن الرجل إذا سار في الصحراء واشتد به الظمأ، وأشرف على الهلكة ثم قيل له: هذا ماء، فإنه يرتوي تلقائياً حتى ولو لم يشرب، فكيف إذا طال العطش ثم قيل: هذا الباب يسمى الريان؟ الريان من الري، والري: ضد الظمأ، قابل الله تبارك وتعالى عطشهم بمسمى باب يبعث على الراحة، وأول الغيث قطرة، فما ظنك بالداخل؟! فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

خذني إلى بيتي أرح خدي على عتباته وأبوس مقبض بابه خذني إلى وطني أموت مشرداً إن لم تكحِّل ناظري بترابه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ختم له بصيام يومه دخل الجنة).

يا إخوتاه! أحدنا يؤثر الظل على الشمس، فما بالنا لا نؤثر الجنة على النار؟ أفلا تساوي الجنة نقلة من الشمس إلى الظل؟ إذاً: فاجعل الصوم سبيلاً للجنة، فاستمسكوا بهذا السبيل، فإنه سبيل للجنة.

والصوم مكفرة للسيئات، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في ماله وأهله وولده وداره ونفسه تكفرها الصلاة والصيام والصدقات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

فهذه معان عظيمة في الصوم لا بد أن نحياها، وأيضاً الصائم له دلال على الله تبارك وتعالى، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين).

سبحان الله! أنت تأكل والله تبارك وتعالى يصلي عليك، فتكون كأم موسى تُرضع ولدها وتأخذ أجرها من فرعون؛ لأنه لا يعلم أنه ابنها، فيكون حالك في توكلك على الله تبارك وتعالى، وصدقك معه في أرقى المرتب؛ فأنت تأكل والله تبارك وتعالى تتنزل عليك رحماته، والملائكة تستغفر لك.

يا أخي! كم من ملك في السماوات والأرض ما ذاقت أعينهم غمضة، وما ذاقوا طعاماً، ولا شربوا شراباً منذ أن خلقهم الله تبارك وتعالى، ليست لهم منحة {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:١٦]، وليس لهم عبير (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك).

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) لأن هذا فرق ما بين صيامنا وبين صيام ضلال النصارى، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فرق ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)؛ لأنهم لا يتسحرون، ولذا سماه الرسول صلى الله عليه وسلم الغذاء المبارك، فقال: (قم بنا إلى الغذاء المبارك).

وسماه أيضاً: الفلاح، يقول الصحابة: (وما كنا ننصرف إلا في طلوع الفجر خشية أن يفوتنا الفلاح).

فعلق الله تبارك وتعالى فلاح هذه الأمة بأن تكون أمة فريدة في خصالها، فلا تتشبه باليهود ولا بالنصارى، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الدين ظاهراً ما عجلت أمتي الفطر).

وقال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر).

وقال: (لا تزال أمتي على