والنوع الثاني من الحياء: حياء التقصير، كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك.
وكذلك حياء الصالحين من الله عز وجل ورؤيتهم لتقصيرهم في حقه، وأن جنابه عزيز كريم.
وما قدروا الله حق قدره.
من هذا الباب نظروا في أحوالهم بعين الدعاوى، وفي أعمالهم بعين التقصير، وكان إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي عمره ويجعل أنفاسه وقفاً على الدعوة إلى الله عز وجل، حتى إذا قرب الموت منه قال له الله عز وجل:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر:١ - ٣].
وهذا إعلام من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بقرب وفاته وأمر له بالاستغفار.
ونوح عليه السلام بعد أن قضى في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً يقول:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا}[نوح:٢٨].
وكان دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم بعد التحلل من الصلاة:(غفرانك، غفرانك)، يعني: كأن هذه العبادة قاصرة عن مقام الله العظيم.
وكان إذا توضأ قال:(اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين).
وقال تعالى لمن انصرف من الحج:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البقرة:١٩٩].
وقد كانوا يمدون صلاتهم طيلة الليل، فإذا كان السحر وقرب الفجر أنزلوا أنفسهم منزلة العصاة وكأنهم أسرفوا طيلة ليلهم في الجرائم، يقول الله تبارك وتعالى:{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}[آل عمران:١٧]، بل إنهم يستغفرون بعد الموت في عرصات القيامة حين مرورهم على الصراط، حين يكون دعاء النبيين والمرسلين والمؤمنين: الله سلم سلم، فهم يقولون:{رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا}[التحريم:٨].
والمؤمن أسير الحق لا يزول عنه خوفه، ولا يسكن اضطرابه حتى يخلف جسر جهنم وراءه، ومن ربك الفضل والكرم.