للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تهجد الصحابة]

إن ذكر الصالحين يطيب المجالس، والحديث عن عباد السلف وعلمائهم ومجاهديهم مما يحلو به الكلام، ففاروق الإسلام عمر بن الخطاب لما مات تزوج عثمان بن العاص -وكان جاراً له- إحدى زوجات عمر، وقال: والله ما تزوجتها رغبة في نكاح ولا ولد، وإنما تزوجتها لتخبرني عن ليل عمر.

فسيدنا عمر رضي الله عنه كان في وجهه خطان أسودان من كثرة الدموع من خشية الله.

لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها قام الليل بآية فما زال يرددها ويبكي حتى أغمي عليه، فمرض من جراء هذه الآية حتى عاده الصحابة شهراً، وكان ينعس وهو قائم بعد توليه الخلافة، فقالوا له: يا أمير المؤمنين! ألا تنام؟ فقال: إن نمت بالنهار ضيعت مصالح الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حظي مع الله.

لسان حاله يقول: لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطابة ليلي ولرعي النجوم كنت مخلا وكذلك كانت ابنته أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها، ذكر الإمام الحافظ ابن حجر في كتاب الإصابة بسند حسنه هو والشيخ الألباني عليه رحمة الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر ذات يوم، فنثر عمر التراب على وجهه، وقال: ما يعبأ الله بك يا ابن الخطاب بعد هذا؟ فنزل جبريل وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يأمرك أن تراجع حفصة؛ لأنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة).

وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ويزرع إلا في منابته النخل فالكلام عن الصحابة أزكى الناس على ظهر الأرض ذو شجون، فنعال الصحابة أو قلامة أظفارهم لو كانت في مياه سوداء مليون سنة لخرجت منها وهي أنظف من قلوب ووجوه الذين ينتقصون فيهم، فقد كان الصحابة قمماً عالية، فسيدنا عثمان بن عفان لما دخلت عليه زوجته نائلة وقد قتلوه، قالت: قتلتموه وإنه كان يحيي الليل كله بالقرآن كله في ركعة واحدة.

تعني: أنه قرأ القرآن كله في ركعة واحدة.

قال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط عن هذه الرواية: إسنادها صحيح.

والعلماء الذين احتجوا بجواز صلاة الوتر بركعة واحدة احتجوا بفعل سيدنا عثمان بن عفان وتميم الداري وسعيد بن جبير؛ فإنهم ختموا القرآن الكريم في ركعة واحدة في الكعبة.

ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً وفيه نزل قول الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:٩].

وترجمان القرآن عبد الله بن عباس كان تحت عينيه مثل الشراك البالي من كثرة الدموع، وكان يصلي نصف الليل ونصفه الآخر يبكي، ويكثر في النشيج، ويردد قول الله تعالى إلى أن يصبح: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩].

وأبو هريرة راوية الإسلام تناوب قيام الليل هو وزوجته وخادمه، فكان يقوم ثلثاً ثم ينام، وتقوم زوجته ثلثاً ثم تنام، ويقوم خادمه ثلثاً.

فإذا قام هذا نام هذا.

وكان يسبح بعد صلاة الصبح اثنتي عشرة ألف تسبيحة، أي: أن له اثنتي عشرة ألف نخلة غرست في الجنة، وكان يقول: إنما أسبح الله بقدر ذنبي، وفي رواية: بقدر ديتي.

وسيدنا تميم الداري الصحابي الذي تفرد برؤية الجساسة، كان بعض الشباب من أبناء الصحابة يقولون عنه: أدركناه شيخناً كبيراً وما كنا نستطيع أن نصلي وراءه صلاة الليل أبداً؛ لطول صلاته، لذلك أجرى الله عز وجل الكرامات على يديه، فقد هبت نار عظيمة في أيام خلافة سيدنا عمر بن الخطاب فقال: قم لها يا تميم، قال تميم: ومن أنا؟ -تواضعاً منه- فاستحلفه بالله أن يقوم، فأومأ بيده هكذا حتى أخرجها خارج المدينة وأدخلها إلى مغارة أو كهف، فقال سيدنا عمر: ليس من سمع كمن رأى، لمثل هذا كنا نحبك يا أبا رقية.

وسيدنا أبو ريحانة الصحابي الجليل قفل عائداً من الغزو فأعدت له زوجه الطعام بالليل، فأكل ثم قام إلى مصلاه إلى الصباح، فعاتبته زوجه، فقالت: يا أبا ريحانة: غزوت فأطلت الغزو ثم عدت، أفما كان لنا فيك نصيب؟ قال: لو خطرتي لي على بال لكان لك فيّ نصيب.

قالت: يرحمك الله! ومن الذي شغلك عنا؟ قال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها.

ولقد غزى سيدنا أبو ريحانة مع الصحابة في البحر فسقطت إبرته إلى البحر، فقال: أقسمت عليك يا رب إلا أعدت إلي إبرتي، فعادت إليه.

وسيدنا شداد بن أوس: كان إذا دخل إلى فراشه فكأنما هو حبة مقلاة من كثرة التقلب، يقول: اللهم إن النار منعتني النوم، فلا يزال يصلي إلى الصبح.

ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم للنفقة في غزوة تبوك رجع أبو ضمضم الأنصاري إلى بيته، وكان فقيراً لم يكن معه شيء، فقام يصلي من الليل ثم قال: اللهم إني أتصدق على كل مسلم ظلمني في مالي أو جسدي أو عرضي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من المتصدق بعرضه البارحة؟ ليقم، فقام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده! لقد قبلت صدقتك في الزكاة المتقبلة).