[قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى ألكم الذكر وله الأنثى)]
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:١٩ - ٢٠]، في قراءة سبعية: (ومناءة الثالثة الأخرى).
هنا قال الوضاعون والكذابون والزنادقة: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:١٩ - ٢٠] قال: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)! الغرانيق: جمع غرنوق، أو غرنيق، وهو: طائر يسبح على صفحة الماء، ثم يرتفع في الجو.
ومعنى (تلك الغرايق العلى) أن لها قدراً ومنزلة عند الله عز وجل.
(وإن شفاعتهن لترتجى)، وهذا ما قال عنه المستشرقون وسلمان رشدي: إنها السهوة المحمدية، قالوا: إن محمداً سهى ومدح الآلهة والأصنام، فلما سجد سجد المشركون معه.
عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: (لما نزلت هذه الآية: ((أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى)) قرأها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترجى، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: إنه لم يذكر آلهتهم قبل اليوم بخير، فسجد المشركون معه، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:٥٢]) هذه رواية عن سعيد بن جبير، وهي رواية صحيحة إلى سعيد بن جبير، ولكنها رواية مرسلة.
وهناك رواية أخرى مرسلة عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وهو من التابعين، وهناك رواية أيضاً صحيحة مرسلة عن قتادة، وهناك رواية صحيحة ولكنها مرسلة عن أبي العالية.
إذاً: هناك أربع روايات مرسلة وكل رواية منها رواية صحيحة إلى من أرسلت عنه.
وهناك حديث موصول إلى ابن عباس، ولكنه لا يصح، والمرسل يا إخوتاه لا يحتج به، فهو من قسم الضعيف، وهناك أكثر من عشر روايات بينها اضطراب في المتن: الرواية الأولى تقول: إن المشركين سمعوا هذا القول فقط من دون المؤمنين، يعني: فالمؤمنون لم يسمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا القول.
هذه رواية.
الرواية الثانية تقول: إن الشيطان كان يقلد صوت النبي في سكتاته -في سكتات الوقف- فحاول تقليد النبي صلى الله عليه وسلم فنطق: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى.
الرواية الثالثة تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى ألا ينزل عليه وحي من الله عز وجل يغضب منه المشركون، فلما نزل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:١٩ - ٢٠]، تلك الغرانيق العلى، قال المشركون: ما سمعنا محمداً يمدح آلهتنا قبل اليوم، فلما سجد سجدوا معه، حتى أتاه جبريل مرة ثانية، فعاوده التلاوة فقال له: أنا ما قلت لك هذا القول، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك.
انظروا إلى هذا الاضطراب: أولاً: الأسانيد كلها مرسلة لا يصح منها إسناد، والأسانيد المرسلة لا يحتج بها؛ لأنها قد تكون من مصدر واحد، وخاصة أن قتادة وأبا العالية، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وسعيد بن جبير كلهم موجودون في عصر واحد، فقد يكون مصدر التلقي شيخاً واحداً.
الشيخ الألباني قال: وهذه الروايات لا تصح، والإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: لا تصح هي من صنع الزنادقة، وأنكر هذه الرواية أيضاً الإمام البيهقي وقال: هذه القصة غير ثابتة من جهة الناقل.
وممن حكم على حديث الغرانيق بالوضع الإمام ابن العربي في كتابه: (أحكام القرآن)، والقاضي عياض في كتابه: (الشفا في حقوق المصطفى)، والفخر الرازي في تفسيره: (مفاتيح الغيب)، والإمام القرطبي في تفسيره: (أحكام القرآن)، والإمام الكرماني من شراح البخاري، والإمام العيني في كتابه: (عمدة القارئ)، والإمام الشوكاني في (فتح القدير) والإمام الألوسي في كتابه: (روح المعاني) وصديق حسن خان في تفسيره: (فتح البيان) ومحمد عبده الشيخ المصري، وسيد قطب، والدجوي شيخ الأزهر، والشيخ الألباني في كتابه: (نصب المجانيق نسف قصة الغرانيق).
قال القاضي أبو بكر بن العربي: اعلموا أنار الله أفئدتكم بنور هداه، ويسر لكم مقصد التوحيد ومغزاه، أن الهدى هدى الله، فسبحان من يتفضل به على من يشاء، ويصرفه عمن يشاء.
يقول: لقد بينا معنى هذه الآية في فضل تنبيه الغبي على مقدار النبي صلى الله عليه وسلم، بما نرجو عند الله الجزاء الأوفى في مقام الزلفى، ونحن الآن نجلو بتلك الفصول الغنَّاء، ونرقيكم بها عن حضيض الدهماء إلى بقاع العلماء وبدأ في الرد.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: لهذه القصة أصل، والروايات المرسلة صحيحة يقوي بعضها بعضاً، وهذه فقرة من فقرات الحافظ ابن حجر العسقلاني لا تتبعوه فيها، فقد رد عليها العلماء الجهابذة، وبعدما أثبت ابن حجر أن الحديث له أصل اضطر أن يؤول، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: تلك الغرانيق العلى، وإنما جاءت على لسان الشيطان.
فقال أهل العلم: وما الذي يحوجك إلى هذا التأويل، وخاصة أن الروايات مرسلة؟ قال القاضي أبو بكر بن العربي: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل الله إليه الملك بوحيه، فإنه يخلق له العلم به، حتى يتحقق أنه رسول من عند الله، ولولا ذلك لما صحت الرسالة.
يعني: حين يرسل الله عز وجل ملكاً إلى النبي فإنه يعطيه العلم اليقيني، ويقذف في قلبه أن هذا ملك وأنه منزل بوحي من عند الله، وإلا لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يتشكك ويقول: هذا جبريل أو ليس جبريل! هذا ملك أو شيطان! إذاً ستضيع الرسالة، هذا هو المقام الأول.
المقام الثاني: إننا أمة النبي صلى الله عليه وسلم نستطيع أن نميز الكفر في الأقوال، فكيف يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم؟ حاشاه أنه قال الكفر، ويمر عليه هذا ثم يأتي جبريل ويعلمه، ويقول له: إن هذا ما قلته لك.
فهذا الكلام لا يقول به عاقل.
ثم يقول: تأملوا فتح الله أغلاق النظر عنكم إلى قول الرواة الذين هم بجهلهم أعداء الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس مع قريش تمنى ألا ينزل الله عليه الوحي يغضب منه الكافرون، فكيف يجوز لمن عنده أدنى مسكة من عقل أن يصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر أنس المشركين على أنسه بربه؟! فهذه القصة موضوعة باطلة لا تصح متناً ولا سنداً، ورد الله كيد سلمان رشدي في نحره، حيث يقول: إن هذه سهوة محمدية، وإن محمداً قد مدح الكافرين!! قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} [النجم:٢١]، أي: له الأنثى من الملائكة؛ لأنهم قالوا: إن الملائكة بنات الله {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:١٩] كيف تجعلون لله عز وجل الإناث وأنتم لا تطيقون رؤية الإناث عند ولادتهن؟! قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:٥٨] وهذا الطبع موجود عندنا في الفلاحين إلى الآن، يولد له الولد فتجد أعيرة النار تكاد تخرب الباب، وربما يكبر هذا الولد بعد ذلك فيكون عاصياً وفاجراً والعياذ بالله! أما البنت فلا يلقي لها اهتماماً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من عال جاريتين كنت أنا وهو كهاتين، وضم إصبعيه)، وحتى بيوت الملتزمين لا تخلو من ذلك.