إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: فإن عنوان هذا الموضوع هو: بكاء الأفئدة من نار الله الموقدة.
ما ظنك أيها المفرط في عمره، المقصر في دهره بسكان هذه الدار الضيقة الأرجاء، المظلمة المسالك، دار يخلد فيها الأشقياء، ويوقد فيها السعير، طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، هذه والله دار الذل والهوان، والعذاب والخذلان، دار الشهيق والزفرات، والأنين والعبرات، دار أهلها أهل الندامة والشقاء، والتعاسة والبكاء.
أحدثك عن دار غم قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها، سلاسل وأغلال، ومقامع وأنكال، والله لم ينذر العباد بشيء أدهى منها، كما قال الحسن البصري رحمه الله: بكى من ذكرها الصالحون، بل ومات من ذكرها الصالحون، هذا علي بن الفضيل بن عياض يقوم في تهجده فيقرأ قول الله عز وجل:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنعام:٢٧] فظل يرددها حتى خرجت روحه، فيأتيه والده الفضيل فيقول: أي ابناه! واقتيل النار! واقتيل القرآن! واقتيل جهنماه! والله ما قتل ابني إلا الخوف من عذاب الله.
ويبكي يزيد الرقاشي، ثم يعاتب في كثرة البكاء ويقال له: لو لم تخلق النار إلا لك لما كان في بكائك مزيد، فيقول: وهل خلقت النار إلا لي ولإخواني من الجن والإنس، أما تسمع قول الله عز وجل:{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}[الرحمن:٣١]، ثم ظل يقرأ من سورة الرحمن حتى وصل إلى قول الله عز وجل:{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن:٤٣ - ٤٤]، فظل يجول في الدار ويصيح ويبكي.
يقول مالك بن دينار رحمه الله: لو وليت من أمر الناس شيئاً لأقمت رجالاً على منارات الدنيا يصيحون في الناس: النار النار.
رأى مالك بن دينار رحمه الله جويرية متعبدة تطوف بالكعبة وتقول: يا رب! أما كان لك عذاب تعذب به من عصاك إلا النار؟! وظل هذا دأبها وقولها من الصباح، فوضع مالك يده على رأسه وقال: يا ثكلاه! ثكلت أم مالك مالكاً، ثكلت أم مالك مالكاً، إذا كان هذا قول الجويرية فما ظنك بـ مالك.
ولما بكى يزيد بن مرثد قال يزيد بن جابر: لم البكاء؟ قال: وما مسألتك عن هذا؟ قال: عسى الله أن ينفعني به، قال: إن هذا الأمر ليعرض لي حين أدخل إلى أهلي، فيحول بيني وبين ما أريد، إن هذا الأمر ليعرض لي حين يقدم إلي الطعام فأبكي وتبكي صبيتي، وتبكي الزوجة، حتى تقول: ويحي وما اختصصت به من طول الحزن معك، لا تقر لي معك عين في دار الدنيا.