[قصة الفضيل بن عياض مع هارون الرشيد]
والفضيل بن عياض سيد من سادات أهل السنة والجماعة، ولما قسا قلب هارون الرشيد ذات ليلة قال للفضل بن الربيع: قد حاك في نفسي الليلة شيء، فدلني على واعظ يذهب ما في صدري، قال: هاهنا سفيان بن عيينة شيخ الحجاز، فانطلقا إليه، فدق هارون الرشيد على باب بيت سفيان بن عيينة فخرج فقال: من؟ قال: أمير المؤمنين، قال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي لأتيتك، ثم ظل يكلمه ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم، قال: يا فضل اقض عنه دينه، ثم قال: ليس صاحبك بشيء.
ثم دله على عبد الرزاق بن همام الصنعاني شيخ أهل اليمن، فدق عليه الباب، فخرج عبد الرزاق فقال: أمير المؤمنين لو أرسلت إلي لأتيتك، فسأله فأجابه، ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم، قال: يا أبا عباس اقض عنه دينه، ثم قال: ما فعل صاحبك بي شيئاً.
ثم دله على رجل آخر وهو الفضيل بن عياض عابد أهل مكة وعالمها، قال: اذهب بنا إليه، فذهب مع هارون الرشيد إليه فدق الباب، فقال: من؟ قال: أمير المؤمنين.
قال: ما لي ولأمير المؤمنين، قال: افتح الباب أليست لي عليك طاعة؟ ففتح له الباب، ثم أطفأ المصباح وصعد إلى أعلى الغرفة، فقال الفضل: والله ليكلمنه الليلة بكلام من قلب تقي نقي، قال: فجعل يحدثنا ولا نصل إليه، قال: فسبقت كف هارون الرشيد إليه كفي، فلما أمسك بها قال: ما ألين هذه الكف، وأنعمها إن نجت غداً من عذاب الله عز وجل! ثم قال: يا هارون! عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة أتى بـ رجاء بن حيوة , ومحمد بن كعب القرظي، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة، أفمعك مثل هؤلاء؟ قال: لا.
قال: يا هارون! ما أجمل وجهك إن وقيته لفح النار، ثم ما زال في الوعظ حتى انتهى منه، ثم قال له: ألك دين؟ قال: نعم، دين لربي، الويل لي إن حاسبني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم يعف عني.
ثم قال له: أعليك دين للعباد؟ قال: سبحان الله! أنا أدلك على طريق النجاة ويكون جزائي منك هكذا، فخرجت جارية سوداء وقالت: والله! لقد أفزعتم الشيخ هذه الليلة، ثم انصرفوا، فلما انصرف هارون الرشيد قال: يا فضل بن الربيع إن دللتني على رجل فدلني على مثل هذا.
هذا سيد المسلمين.
والفضيل بن عياض كان في بداية أمره لصاً، وكان يتعشق الجواري، ثم تاب إلى الله تبارك وتعالى بسبب آية من القرآن، فبينما هو يتسلق الجدار ذات ليلة ليصل إلى حبيبته سمع قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:١٦].
فقال: آن الأوان يا رب ثم نزل، فأراد أن يمضي إلى خربة لينام فيها بعد أن تاب فسمع أهل قافلة يقولون: إن الفضيل في الطريق، لا نسافر هذه الليلة، فأمنهم وأوصلهم إلى مأمنهم.
وكان سفيان بن عيينة يقبل يد الفضيل.
أما عبد الله بن المبارك فكان إذا سمع الفضيل يتكلم يقبل جبهته ويقول: يا معلم الخير! من يحسن هذا غيرك.
وكان يقول: كنت كلما قسى قلبي نظرت إلى وجه الفضيل فجدد لي الحزن، فأمقت نفسي.
والإمام شيخ الإسلام أبو نعيم الفضل بن دكين، لما سألوه في محنة خلق القرآن، قال عنه الإمام أحمد: قام لله بعظيم أمر لم يقم به أحد، هو وعفان، وعفان كان شيخ الإمام أحمد.
ولما أدخل أبو نعيم على المأمون ليمتحنه في خلق القرآن قال: القرآن كلام الله، ولقد لقيت سبعمائة شيخ من شيوخ الكوفة والبصرة وكلهم يقولون: القرآن كلام الله، وعنقي أهون علي من زري هذا، فقام الحافظ أحمد بن يونس، وكانت بينه وبين أبي نعيم شحناء فقبل رأسه، وقال له: جزاك الله من شيخ خيراً.
وكان قبله رجل قد أفتى أن القرآن مخلوق، فقال أبو نعيم: أما جد هذا فلقد أخبرني الأعمش أنه كان يقول: يجوز أن ترمى الجمرات بالقوارير.
ولما دخل عفان على المأمون، بعث لواليه وقال له: امتحنه وقل له: إن أجبت إلى القول بخلق القرآن نجري عليك ما كنا نجري، وإلا منعنا عنك الراتب الشهري ألف درهم في الشهر.
وكان يعول أربعين نفساً في بيته فامتنع، وقال لشيوخ الحديث: لم أسود وجوهكم، وقلت: القرآن كلام الله عز وجل، فمنعوا عنه راتبه، فلما وصل إلى بيته عاجلته النسوة، وقلن له: قطعت عيشنا، والآن نأكل من أين؟ فما إن دخل حتى دق الباب رجل يبيع الزيوت وأعطاه ألف درهم، وقال له: هذه ألف درهم مكان الألف، ثبتك الله كما ثبت دينه.
والإمام البويطي تلميذ الإمام الشافعي، وعالم الشافعية، امتحن في خلق القرآن، فلقد بعث الواثق لوالي مصر إن امتحنه في خلق القرآن، فالوالي كان يحبه، فقال له: قل: إن القرآن مخلوق بيني وبينك، قال: لا والله ورائي مائة ألف، ولا أكذب في دين الله عز وجل، فاضطر أنه يسيره إلى بغداد والأغلال في عنقه، والأنكال والقيود في رجليه، وقد شدوا ما بين رجليه وما بين عنقه بسلسلة وضعوا فيها قطعة حديد زنتها أربعين رطلاً، وكان يقول: والله لأموتن في حديدي حتى يأتي أقوام يعلمون أن هذا الأمر قد مات فيه أناس في حديدهم.
وشيخ الإسلام نعيم بن حماد شيخ الإمام البخاري لما سألوه في محنة خلق القرآن لم يجب، فكلكلوه وألقوه مقيداً، فمات ولم يغسل ولم يكفن، فقد أرادوا أن يفك عنه القيد قبل لحظة الوفاة فقال: إني رجل مخاصم أمضي إلى الله عز وجل بقيودي.