اعلم يا أخي! أن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، فرارة من الخير، وأمرت بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها وخالقها، ومنعها عن شهواتها، وفطامها عن لذاتها، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن هزمتها بالتوبيخ والمعاتبة والملامة كانت نفسك هي النفس اللوامة التي أقسم الله بها، ورجوت أن تصير النفس المطمئنة، المدعوة إلى أن تدخل في زمرة عباد الله راضية مرضية، فلا تغفلن ساعة عن تذكيرها ومعاتبتها، فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحي من الله، قال تعالى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:٥٥]، وسبيلك أن تقبل عليها فتقرر عندها جهلها وغباوتها، وأنها أبداً تتعزز بفطنتها وهدايتها، ويشتد أنفها واستنكافها إذا نسبت إلى الجهل، فقل لها: يا نفس! ما أعظم جهلك! تدعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقاً، أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار؟! وأنك صايرة إلى إحداهما على القرب؟ فمالك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم؟ وعساك اليوم تخطفين أو غداً فأراك ترين الموت بعيداً، ويراه الله قريباً! أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب، وأن البعيد ما ليس بآت؟ أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ومن غير مواعدة ومواطأه، وأنه لا يأتي في شيء دون شيء، ولا في شتاء دون صيف، ولا في صيف دون شتاء، ولا في نهار دون ليل، ولا في ليل دون نهار، ولا يأتي في الصبا دون الشباب، ولا في الشباب دون الصبا؟ بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة، فإن لم يكن الموت فجأة، فيكون المرض فجأة ثم يفضي إلى الموت، فمالك لا تستعدين للموت، وهو أقرب إليك من كل قريب؟! آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد ركوب نعشك، آخر العدد دخول قبرك، آخر العدد عرصات القيامة ولقاء ربك، وإن النفس قد يخرج ولا يعود، إن العين قد تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يدي الله عز وجل:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ}[الأنبياء:١ - ٣].
ويحك يا نفس! إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك، فما أعظم كفرك! وإن كان مع علمك باطلاعه عليك فما أشد وقاحتك وأقل حيائك! ويحك يا نفس! لو واجهك عبد من عبيدك بل أخ من إخوانك بما تكرهينه كيف كان غضبك عليه ومقتك له فبأي جسارة تتعرضين لمقت الله وغضبه وشديد عقابه؟! أفتظنين أنك تطيقين عذابه؟ هيهات هيهات! جربي نفسك إن ألهاك البطر عن أليم عذابه، فاحتبسي ساعة في الشمس أو في بيت الحمام، أو قربي أصبعك من النار لترين قدر طاقتك! إن كنت تغترين بكرم الله وفضله واستغنائه عن طاعتك وعبادتك فمالك لا تعولين على كرم الله في مهمات دنياك؟! إذا قصدك عدو لم تستنبطين الحيل في دفعه ولا تكلينه إلى كرم الله؟! وإن أرهقتك حاجة إلى شهوة من شهوات الدنيا مما لا تنال إلا بالدينار والدرهم فمالك تنزعين الروح في طلبها وتحصيلها من وجوه الحيل فلا تعولين على كرم الله تعالى حتى يعثر بك على كنز أو يسخر عبداً من عبيده فيحمل إليك حاجتك من غير سعي منك ولا طلب؟ أفتحسبن أن الله كريم في الآخرة دون الدنيا، وقد عرفت أن سنة الله لا تبديل لها، وأن رب الآخرة والدنيا واحد، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى؟! ويحك يا نفس ما أعجب نفاقك ودعاويك الباطلة! إنك تدعين الإيمان بلسانك، وأثر النفاق ظاهر عليك، ألم يقل لك سيدك ومولاك:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}[هود:٦]، وقال في أمر الآخرة:{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النجم:٣٩]، فقد تكفل لك بأمر الدنيا خاصة، وصرفك عن السعي فيها فكذبتيه بأفعالك وأصبحت تتكالبين على طلبها تكالب المدهوش المستهتر، ووكل أمر الآخرة إلى سعيك فأعرضت عنها إعراض المغرور المستحقر، فليس هذا من علامات الإيمان، لو كان الإيمان باللسان فلم كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؟!