[من يستحيا منهم]
إن مقامات الحياء مقامات عظيمة، ولذلك كان الحياء خلق الإسلام، والدرجة الأولى منه: أن تبغض إليك المعصية، فإذا علمت أن الله قريب منك فسيحملك هذا على استقباح الجناية، فتنظر إلى أدنى ذنب بأنه كبير في حق الله عز وجل؛ لأنك تعلم أن الله ناظر إليك في كل لحظة، وأنت مقيم على معصيته وعلى مخالفة أمره دق أو جل، صغر أم كبر، فقل: يا رب! أتراك ترحم من لم تقر عيناه بالمعاصي حتى علم أن لا عين تراه غيرك! فلا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها.
فالدرجة الأولى من الحياء تبغض إليك المعصية، وتحملك على استقباح الجناية، وتمنعك عن الشكوى لغير الله عز وجل، إلى درجة أن إحدى العابدات عندما جاءت إلى الإمام أحمد تسأله الأسئلة التي لا يسأل عنها العلماء اليوم، فقالت له: يا إمام! أنين المريض شكوى؟ قال: ما سمعت مثل هذا السؤال من قبل، ونرجو ألا يكون كذلك، قالت: يا إمام! إذا مرت الظاهرية -وهم أناس من الأمراء الظلمة- غزلنا غزلنا على ضوئها، فهل نبينه للناس، قال: افعلي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ثم قال لابنه عبد الله: تتبعها إلى أي البيوت تدخل، فقال له: دخلت في بيت بشر، قال: من بيتهم خرج الورع.
فالإمام أحمد غابت عنه هذه المسألة، حتى كان في مرض الموت، فقيل له: إن طاوساً يقول: أنين المريض شكوى، وفي البداية كان الإمام أحمد يقول: نرجو ألا يكون كذلك، فغابت عنه هذه المسألة، ثم فهمها الإمام عند الموت، فما أنَّ ابن حنبل حتى مات، ولذلك تجد العباد يقولون: تفقهوا في مذاهب الإخلاص.
وأشرف العلوم علم الأسماء الحسنى، فتعرف على كل اسم، وكيف تتعبد لله عز وجل بهذا الاسم والصفة، وانظر الصفات في المخلوقات، فتجد نفسك في وادٍ والناس في وادٍ آخر، فعندما تعرف مثلاً اسم المقيت من أسماء الله عز وجل، وتعرف أن المقيت هو الذي يعطي كل مخلوق قوته الضروري، وتعرف مثلاً أن عدد أنواع النمل ١٢٠٠٠ نوع، وتحت كل نوع آلاف الملايين، وهذا صنف واحد، ثم الحشرات أكثر من ألف نوع، والطيور والأسماك كذلك، والنجوم لا يحصى عددها؟ والمجرات مائة ألف مليون مجرة، هذا في الجزء المرئي من السماء فقط، وعدد النجوم في كل مجرة ما يقرب من مائة ألف مليون نجم، وهذه تحتوي على نواة ونوية، وكل شيء حي يحتوي على خلايا حيه، والخلايا فيها سيتوبلازم وجدار للخلية ونواة ونوية، فمن الذي يعطي لكل مخلوق من هذه المخلوقات قوته الضروري في وقت واحد؟ وكم أمات وأحيا في وقت واحد؟ فإذا علمت هذا استحييت أن يراك الله راكناً إلى بعض خلقه، وهو ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، ومن له ملك الدنيا والآخرة، وملك السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى: ورب عليم بذات الصدور يدين لعزته الكابر يدين له النجم في أفقه يدين له الفلك الدائر تدين البحار وحيتانها وماء سحاباتها القاطر تدين النجاد تدين الوهاد يدين له الزاحف الناشر فكل عبيد له، وكل له قانتون، قهرهم بحكمه وبملكه، وأمره ومشيئته نافذة في خلقه.
إذا علمت أنه قريب منك فيقبح بك الشكوى إلى غيره: وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:٨٣]، والشكوى إلى الله ليست بشكوى.
الدرجة الثانية: علمك بقرب الله عز وجل فتبغض إليك كثرة المخالطة.
الدرجة الثالثة: وهي التي يقول عنها الإمام ابن القيم: شهود الحضرة وانجذاب القلب والروح من الكائنات وعكوفه على رب البريات.
وهناك درجات في القرب من الله عز وجل لا تحيط بها الأفهام، فتطير القلوب إلى الله عز وجل وتسجد تحت العرش، فمثلاً: بالله عليك هل حال قلبك هذا اليوم كحاله وأنت في أيام الاعتكاف وعكوف القلب وجمعيته على الله عز وجل في العشر الأواخر من رمضان؟ وأنت تريد أن تختم المصحف كل يوم؟ ويجوز لك العلماء الوصال إلى قبل أكلة السحور بقليل، فتجمع ما بين السحور والإفطار وأنت في أيام جمعية القلب وعكوفه على رب البريات.
فعندما يكون القلب عاكف على رب البريات في كل لحظه، في رمضان وشوال، وكل الأيام عنده ليلة القدر كيف يكون هذا الراجل! ولو أن شخصاً سمع سيدنا الشيخ المنشاوي يقرأ الزمر أو آل عمران أنه يريد أن يطير طيراناً، فما ظنك إذا كنت كل لحظات حياتك هكذا، فإنك تجد معاني في القرب لا تكيفها الأفهام ولا تحيط بها العقول، وفي الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) فهذه لا تحيط بها الأفهام: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب كيف نزوله تضيق بنا الدنيا إذا غبتمُ عنا وتزهق بالأشواق أرواحنا منا فكيف بالله عز وجل! بعادكم موت وقربكم حياة ولو غبتمُ عنا ولو نفساً متنا يقول القائل: أما تبصر الطير المقصص يا فتى إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنى ففرج بالتغريد ما في فؤاده وهيج أرباب القلوب إذا غنى كذلك أروح المحبين يا فتى تهدهدها الأشواق للعالم الأسنى وهل يسجد القلب لله عز وجل؟ قال الإمام ابن القيم: يسجد تحت العرش سجدة لا يقوم منها إلا يوم القيامة، فهذه درجات الحياء الثلاث.