[تقسيم آخر للصبر]
أما أنواع الصبر فثلاثة وإن شئت قسمتها قسمين: صبر على ما لا كسب للعبد فيه (اضطراري) وصبر اختياري.
فالصبر الاضطراري هو الصبر على أقدار الله عز وجل من أذى الموت والمرض والفقر والغنى وغيرها.
أما الاختياري فإنه على نوعين: صبر عن المعصية وصبر على الطاعة، وأفضلهما الصبر على الطاعة، وأقل منه درجة الصبر عن المعصية، وأقل منها درجة الصبر على الأقدار المؤلمة، فالصبر على الأقدار المؤلمة أقل درجات الصبر ثواباً.
والناظر إلى عظم هذا الثواب مع أنه أقل أنواع الصبر يعظم في صدره ثواب ما هو أعلى منه.
فأعلى من الصبر على الأقدار المؤلمة الصبر عن المعصية، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هل يقارن صبر يوسف على إلقاء إخوته له في الجب بصبره عن مراودة امرأة العزيز؟ لا شك أن صبره عن مراودة امرأة العزيز أشد؛ لأن الأول واقع سواء صبر أو لم يصبر فيكون صبره حينها صبراً اضطرارياً، أما صبره عن المعصية فهو صبر اختياري؛ فإنه صبر عند مراودة امرأة العزيز.
ومثل ذلك يقال في صبر يعقوب على عماه وصبر إبراهيم على إلقائه في النار لا يقاس هذا بذاك، ومع ذلك فإن الصبر على الأقدار عظيم الأجر والثواب؛ فعن صبر من ابتلي بالعمى يقول صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تبارك وتعالى لملائكته: إذا أنا سلبت كريمتي عبدي -أي عينيه- فصبر على ذلك لم أرض له ثواباً دون الجنة)، فهذا جزاء صبر من رزقه الله الصبر على العمى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم).
ولذلك كانت عند خالد بن الوليد رضي الله عنه امرأة فطلقها، ثم أثنى عليها فقال: لم تبتل وهي عندنا بشيء، أي: لم تصب بأي مرض.
والإنسان لا يتمنى البلاء ولكن إن نزل به يصبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليودن أهل العافية أن لو قرضت جلودهم بالمقاريض في دار الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء فالأمثل فالأمثل).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصالحين يشدد عليهم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء فالأمثل فالأمثل، كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها، وأحدهم يبتلى بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أفرح بالبلاء إن نزل به من فرح أحدكم بالعطاء).
وعن الصبر على موت الولد يقول الله تبارك وتعالى لملائكته: (قبضتم روح ولد عبدي المؤمن.
يقولون: نعم، يقول: أخذتم ثمرة فؤاده؟ يقولون: نعم، يقول: فماذا قال عبدي؟ يقولون: يا رب حمدك واسترجع، قال: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرقوب من لا ولد لها)، والرقوب هي المرأة التي لا يعيش لها أولاد، والرقوب في الشرع هي التي لم تقدم أولاداً يموتون في حياتها؛ لأن الرجل إذا مات له ثلاثة من الأولاد أو اثنان من الأولاد كانا حجاباً له ولامرأته من النار.
فينبغي على الإنسان أن يصبر انتظاراً لروح الفرج، فالأمراض كفارات تأخذ من ذنوب المرء، ولا يزال المرض بالمؤمن حتى يلقى الله تبارك وتعالى وليس عليه خطيئة، والذي يهون على الإنسان الصبر على قضاء الله عز وجل هو ذكر سوالف المنن التي امتن الله بها عليه، وتعداد أيادي المنن الحاضرة الموجودة بين يديه، إن من يأخذ منك شيئاً ليعطي لك الأجر كاملاً يوم القيامة لا شك أنه رحيم بك كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا كما تحمون مريضكم من الطعام والشراب).
ومثل ذلك أن يكون لك ولد تحبه أصابه مرض ما فمنعك الدكتور أن تطعمه ثلاثة أيام وهو ابنك الوحيد، وأنت تملك كنوز الأرض وتتمنى أن تورثه مالك كله وتطعمه ما اشتهى من أطعمة الدنيا، ومع ذلك تلتزم بتعاليم الدكتور وتمنعه من الأكل لمدة ثلاثة أيام، فكذا يحمي الله عز وجل عبده المؤمن من الدنيا حتى لا تصيبه بأوضارها ونجاستها.
ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم).
الصبر على الأقدار المؤلمة قال سيدنا ابن عباس لـ عطاء: (ألا أريك امرأة من أهل الجنة، قال: نعم، قال: هذه المرأة السوداء أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله! إني أصرع فادع الله لي قال: إن شئت صبرت ودعوت الله لك بالجنة وإن شئت دعوت الله لك فعافاك، قالت: أصبر ولي الجنة، قالت: يا رسول الله ولكني أتكشف)، بلا إرادة منها تأتيها نوبة الصرع فتظهر محاسنها وتتبرج بغير حول منها ولا قوة، فصبرت على الألم ولم تصبر على التبرج، (قالت: إني أتكشف فادع الله لي ألا أتكشف فدعا لها)، فكانت عندما يأتيها الصرع لا ينكشف شيء من عورتها، فصبرت على شدة الألم وكان لها الجنة.