[الصدق في الخوف]
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: الصدق في الخوف: ليس أن تدمع عيناك وأنت ترتكب المعاصي، ليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه، إنما الخائف من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه.
كان مالك بن دينار يعظ قوماً، ثم بعد أن انتهى من موعظته التفت إلى النعل فلم يجدها، فقال: كلنا يبكي فمن سرق النعل؟ فالدموع ليست بكافية، ربما تكون دموع تماسيح.
هل أنت صادق مع الله عز وجل؟ أم أن توبتك كتوبة شيخ ضعفت قوته عن ارتكاب المعصية، أو يدعي التوبة ويلتفت إلى الذنب الفينة بعد الفينة، ويتذكر حلاوة الذنب؟ فلو صدقت توبتك لصحت.
فكل يوم يمر عليك ولا تعصي الله عز وجل فهو يوم عيد.
وهذه هاجر أتى بها إبراهيم إلى جبال فاران موضع مكة الآن، ونظرت حولها فلم تجد إلا هدير الصحراء؛ فقالت: (يا إبراهيم! إلى من تتركنا في مثل هذا المكان القفر، يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً فلن يضيعنا).
هذا الكلام سهل، لكنه كلام امرأة ومعها رضيعها في الصحراء، وبعد قليل سيفارقها زوجها، ولن تجد بعد ذلك لا ابن ولا بنت، ولن تجد إلا الموت في الصحراء.
فماذا تفعل المرأة برضيعها، وهو يتلبط من الجوع والعطش، فتهرول ما بين الصفا والمروة، ولصدقها يجعل الله عز وجل هذه الخطوات ركن من أركان الحج، فرفعها الله عز وجل بصدقها، ولما نزل إليها جبريل، قال: من أنت؟ ومن زوجك؟ قالت: أنا أم إسماعيل، وزوج إبراهيم، قال: إلى من وكلكما؟ قالت: إلى الله، فقال: صدقت، وكلكما إلى خير كافل، لا تخشي الضيعة، إن الله لا يضيع أهله.
ويزعم أنه منا قريب وأنا لا نضيع من أتانا ويسألنا على الإحسان جوداً كأنا لا نراه ولا يرانا قال الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:٧]، ولما صدقت في المعاملة مع الله عز وجل، وعلمت أن الله عز وجل هو خير كافل، وهو خير وكيل، ألقت بابنها الرضيع على صفحة النهر، وقد كانت ترضعه على خوف من فرعون وملئه، والآن تلقيه في اليم، والأم إذا خافت على ولدها ضمته إلى صدرها، فلم يقل لها: فضميه إلى صدرك بل (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)، وهذا من صدق التوكل على الله عز وجل.
سبحان من جعل من موج البحر لموسى مستراحاً ومأمناً ومناماً، وجعل من النار لإبراهيم برداً وسلاماً.
ويأتي هذا التابوت إلى قصر فرعون لتكون المعركة على أرضه.
وكأنه يقال له: جندت كل جندك وكل القافلات من أجل هذا الطفل الرضيع! فسوف نسهل لك المهمة ونأتي به إلى قصرك.
وتنظر الجواري فيلتقطن سيدنا موسى عليه السلام، وإنما يؤتى الحذر من مأمنه، ولا يؤتى فرعون إلا من قبل زوجته التي تعيش معه في غرفة واحدة، قال الله تبارك وتعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:٣٩]، قالت زوجة فرعون: {لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:٩]، ونجاه الله عز وجل بأرق شيء، وهو المحبة التي ألقاها في قلب آسية، فلم تحمه الملائكة ولا غيرها، وإنما حماه الله بكلمة الحب: لا تقتلوه.
وربي موسى في حجر فرعون، ولسان القدر يقول: لا نربيه إلا في حجرك.