[قوله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس فلله الآخرة والأولى)]
قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:٢٣] وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث).
((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)) أي: الشبهات ((وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ)) أي: الشهوات، وأمراض القلوب دائرة بين الشبهات والشهوات.
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:٢٣]، جاءتهم الآيات البينات من كتاب الله عز وجل، وجاءهم الطيب من القول وأحسن الحديث، ومزامير الأنس من حضرة القدس، بألحان التوحيد من رياض التمجيد، من مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ثم قال الله تبارك وتعالى: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} [النجم:٢٤] أي: أم لهذا الكافر الذي يعيش بهوان من أمنيته، فلا تتحقق أمنياته في طلبه الشفاعة من هذه الأصنام والأوثان.
أم لهذا الكافر ما تمنى؟ ليس له ما تمنى من أن تشفع فيه هذه الأصنام والأوثان: ((فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى)) أي: الأمر كله لله عز وجل، قال الله عز وجل: {إِنَّ عَلَيْنَُا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} [الليل:١٢ - ١٣]، وقال الله عز وجل: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل:٩١] لله عز وجل كل شيء، ملك السماوات السبع والأرضين السبع، وما بينهما، وما تحت الثرى، وله الشفاعة.
فالشفاعة كلها لله عز وجل، يعطيها من يشاء من عباده بعد إذنه ورضاه، ولابد من وجود شرطين: إذن الله عز وجل، ورضاه عن المشفوع فيه، ويستثنى من ذلك أبو طالب، فإن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل نفعت شفاعتك لعمك أبي طالب؟ فقال: نعم، وضع في ضحضاح من النار) توضع الجمرة تحت أخمصه يغلي منها دماغه، ولولا النبي صلى الله عليه وسلم لكان في قعر جهنم، فهذا من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يخرج من النار.
والشفاعة على مراتب: الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم دون بقية البشر، وهو: أن يأذن الله عز وجل في حساب الناس، وهذه خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها أحد، ومن عظمها أن النبي صلى الله عليه وسلم خيره الله عز وجل بين أن يدخل نصف أمته الجنة وبين الشفاعة، فاختار الشفاعة العظمى في انصراف الناس للحساب بين يدي الله عز وجل.
وهناك شفاعات أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها غيره من الأنبياء، كشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين ألفاً من أمته، يدخلون الجنة بغير حساب، يقول صلى الله عليه وسلم: (أعطاني ربي سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب من الباب الأيمن من أبواب الجنة، لا يدخل معهم أحد سواهم -سبعين ألفاً- ومعهم ثلاث حثيات من حثيات الملك عز وجل، أو مع كل ألف سبعين ألفاً)، وفي الحديث الذي صححه الألباني: (مع كل واحد منهم سبعين ألفاً)، السبعون الألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب مع كل واحد سبعون ألفاً، إذاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب أربعة مليار! سيدنا عمر قال إذاً: يدخلهم الله كلهم الجنة، على هذا لا يوجد أحد سيدخل النار؟ فقال سيدنا أبو بكر: وما عليك أن يدخلهم الله كلهم الجنة؟ أي: لماذا أنت غاضب من هذا؟ ثم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، حيث قال: (أنا أول شافع في الجنة) أي: الإذن بدخول الناس الجنة، هذه يشفع فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
والشفاعة لأهل الكبائر من أمته هذه ينكرها مصطفى محمود! وهناك شفاعة أخرى: مثل الشفاعة في أناس دخلوا الجنة فيعطون فوق ما تبلغهم أعمالهم، يعني: أن أعمالهم توصلهم إلى درجة معينة، فيشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيصلون إلى مراتب في الجنة لا تبلغهم إياها أعمالهم، فكل هذه شفاعات.
والنبي صلى الله عليه وسلم حين يشفع يحد الله له حداً: أخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من شعير أخرج من النار من كان في قلبه مثقال برة أدنى ذرة ثم يأتي الذين لم يعملوا خيراً قط، فيقول لهم الله عز وجل: (هؤلاء ليسوا لك إنما هم لي)، وهؤلاء يسمون بالجهنميين عتقاء الرحمن من النار.
وهناك شفاعة للملائكة، وشفاعة للرسل، وشفاعة للصالحين، وشفاعة للشهداء، والشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته.
اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك، اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك، اجعلنا ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول لا يلتفتون بوجوههم حتى يقتلوا، يلقون في الغرف العلى من الجنة، يضحك إليهم ربك، إن ربك إذا ضحك إلى عبده المؤمن فلا حساب عليه، هي هذه الجائزة إذا نلتها، فلله در أم حملت بك ودرت عليك! أما الصالحون فقد يشفع أحد الصالحين فيما لا يشفع فيه الشهيد، مثل أويس القرني قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (رجل من أمتي يشفع في مثل الحيين ربيعة ومضر)، يعني: حدود هاتين القبيلتين، وهما أعظم قبائل في الجزيرة العربية، كان عددهم لا يقل عن مائة ألف، فقالوا: هو أويس القرني أو الحسن البصري أو عثمان بن عفان، والذي عليه أكثر العلماء أنه أويس القرني.