[سنة الله في الابتلاء والتمحيص]
ومن سنن الله تبارك وتعالى قانون الابتلاء، وأنه لا بد من الفتنة: يقول الله تبارك وتعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:٣٥] فلا بد من الفتنة إما بالمال وإما بالأمراض والأوجاع وغير ذلك.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:٣١] إذاً: البلاء سنة من سنن الله تبارك وتعالى.
ويقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:٧].
ويقول تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:١٥٥].
ولكن الابتلاء بين الناس يتفاوت، فقد جرت سنة الله تبارك وتعالى في الابتلاء أن البلاء على قدر الإيمان؛ فأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون والعلماء الأمثل فالأمثل، ويمتحن الله تبارك وتعالى المؤمنين بالشدائد كما يمتحنهم بالجهاد ويمتحنهم بأنواع الأذى.
وقد يبتلي الله تبارك وتعالى الأمة الكافرة عسى أن ينفعها هذا البلاء، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:٩٤].
والله تبارك وتعالى يبتلي أيضاً مدّعي الإيمان: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:٢ - ٣].
والله تبارك وتعالى قد يبتلي العبد بفتنة النعمة وهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى، وكثير من الناس لا يصمد على فتنة المال؛ يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
فمن الممكن أن تلقى أخاً يرابط على صلاة الجماعة في الصف الأول طالما أن لديه أكل يوم فقط! فإذا ما أغناه الله غاب عن صلاة الجماعة؛ ولذلك قال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٤٩].
والله تبارك وتعالى هو المتفرد بامتحان عباده، وقد أمرنا أن نتعوذ من الفتن، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر وعذاب القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال).
ويقول الله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:٥] جاء في التفسير: أي: لا تظهرهم علينا فيفتنونا عن ديننا، ولا تسلطهم علينا فيفتنونا عن ديننا.
والله تبارك وتعالى حين يبتلي الجماعة المسلمة لا يبتليها ليعذبها وإنما يبتليها ليهذبها؛ وهناك كلام طيب للشيخ عبد الكريم زيدان في سنة الابتلاء يقول: والمحن إن كانت مما جرت به سنة الله في ابتلاء عباده فهي تمحيص وتمييز للصادق من الكاذب، وللخبيث من الطيب، وهذه السنة تسري على الجماعة المسلمة، ولكن حذار أن تجلب الجماعة المسلمة المحن لنفسها أو تستعجل وقوعها لها، مدفوعة بالحماس لنصرة الإسلام أو مستحضرة في نفسها أن المحن والشدائد لابد منها، وأنها بدون المحن تنصب عليها التهم بالضعف والخور والقصور في خدمة الإسلام.
ويقول: استعجال المحن جهل من الجماعة المسلمة، أعني بهذا الجهل: جهل الجماعة المسلمة بمعنى سنة الله في الابتلاء والفتن والامتحان وما يجب عليها.
يقول: لا يعني ذلك وجوب أو استحباب أو إباحة أن تجلب الجماعة المحن لنفسها وتتعمد الوقوع فيها، كما لا تعني هذه السنة عدم جواز الحذر أو الوقاية! فالموقف الصحيح للجماعة المسلمة أنها لا تستغرب الفتن إذا أصابتها المحن أو الشدائد، ولكنها لا تستعجل الوقوع فيها ولا تتمنى الوقوع فيها، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو)، ويقول الله تبارك وتعالى عن نبيه إسماعيل: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:١٠٢] لم يقل: ستجدني من الصابرين؛ فالذي يصبر من صبّره الله تبارك وتعالى.
يقول الشيخ عبد الكريم زيدان: رياء الجماعة المسلمة يجلب لها المحن، وقد يكون الدافع للجماعة المسلمة في سعيها لجلب المحن لنفسها هو رياؤها وطلبها السمعة لنفسها عند الناس، وهذا الدافع للعمل داء قديم في الجماعات وفي الأفراد، ولكن ضرره في الجماعة المسلمة أشد من ضرره بالأفراد والجماعات الدنيوية، فالمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (بشر هذه الأمة بالثناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب) وإذا لم يحصل ثناء ولا رفعة ولا تمكين في الأرض فذلك لأنه يوجد رياء، وليس هناك إخلاص.
وأيضاً من المحاذير في هذا الباب وفي هذه السنة: أنه (لا ينبغي للمسلم أن يذل نفسه)؛ وهذا حديث صحيح: كيف يذل نفسه؟ قال: (يتعرض من البلاء لما لا يطيق) أي: أنه يعرض نفسه لأمر يعلم أنه يؤدي إلى الفتنة، وأنه سيحلق لحيته.
فالإنسان يتقي الله تبارك وتعالى في إخوانه، ويتقي الله تبارك وتعالى فيمن حوله وفيمن وراءه.