[الصدق في العزم وطلب العلم]
وهناك الصدق في العزم، مثل أنس بن النضر عندما صدق في عزمه، والله عز جل ذكر الذين يعاهدون الله عز وجل ولا يصدقون في عهدهم، فقال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:٧٥ - ٧٧] أي: كانوا في عهدهم كاذبين، وفي عزمهم غير صادقين.
فينبغي لمن أراد أن يطلب العلم أن يكون صادقاً مع الله عز وجل، فيترك كل شيء من أجل العلم، وهذا يحتاج إلى عزيمة قوية وقرار حاسم، وعندما نتكلم عن طالب العلم لا نقصد بأنك تجلس وتذاكر وتحفظ وتتعلم وتعرف التفسير فقط ثم لا تعرف موعظة توسع بها صدرك، وتنشط بها رجاءك، وتجدد بها نشاطك، ولكننا نريد الثمرة، فنحن محتاجون إلى علماء للأمة يأخذون بيدها إلى الرشاد والحق والهدى، فأين هذه الثمار؟ وأين البذل لله عز وجل؟ فلا ينفع أن تأتي وتسمع محاضرة مدة ساعة أو ساعتين ثم تذهب وتنام، بل لابد أن تكون حياتك كلها للعلم، والعلم لا ينال براحة الجسم، وأما إرادة بعض العلم والتعذر بأنك لست فارغاً أو عندك أشغال أو أتعبك العيال فهذه كلها معاذير، فلماذا لا تعكس المسألة وتقول: عندي درس علم، ولست فارغاً للذهاب في المشاوير؛ من أجل درس العلم، ولست فارغاً لمقابلة الضيوف؛ من أجل درس العلم، ولست فارغاً لأن أفسح على العيال؛ من أجل درس العلم؟! فلماذا جعلنا العلم بل جعلنا أعمالنا كلها التي هي مع الله عز وجل على هامش الحياة، فبعد أن نأكل ونشرب وننام ونتكلم ونصاحب ونمزح ونمرح بعد ذلك نفكر أننا نمسك المصحف ونقرأ، ونفكر أننا نمسك كتاب صحيح مسلم ونحفظ منه حديثاً، أو نفكر أننا نتعلم مسألة من مسائل الفقه؟! والله عز وجل يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:١٦٢]، وأبو هريرة لما كانوا ينكرون عليه كثرة الحديث قال: كنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، يعني: كان أهم شيء عنده أن يتعلم من النبي عليه الصلاة والسلام.
وكان السلف يذلون أنفسهم من أجل العلم، فـ عبد الله بن عباس -وهو من هو شرفاً ومكانةً وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول: كنت آتي هذا الحي من الأنصار لما أعلم ما عندهم من العلم، فأقيل عند باب أحدهم وإني لأعلم أني لو استأذنته لأذن لي.
وكان يفعل ذلك ليطيب بها نفسه، ويرقق بها قلبه.
فكانوا يذلون أنفسهم بصدق في العلم.
والإمام الشافعي الذي تربى يتيماً يقول: كنت يتيماً في حجر أمي، وكانت لا تجد ما تعطيه المعلم.
وهذه العادة موجودة حتى الآن في الريف، فالشيخ الذي يحفظ الأطفال في الكتاب منهم من يعطيه خبزاً، ومنهم من يعطيه دقيقاً، ومنهم من يعطيه أشياء يعيش بها، فكانت أم الشافعي لا تجد ما تعطي المعلم.
قال: فرضي مني أن أخلفه في مجلسه، يعني: ينظف المجلس بعدما يقوم المدرس ويمسحه، حتى حفظ كتاب الله عز وجل، ثم جلس في مجالس العلماء، قال: فكنت لا أجد ما أشتري به القراطيس -يعني: الأوراق التي يكتب فيها- فكنت أذهب إلى المزابل فإذا وجدت عظماً يلوح أخذته فكتبت عليه، حتى إذا امتلأ جعلته في جرة لنا قديمة، هذا هو الإمام الشافعي الذي مات وله خمسون سنة وقد ملأ علمه الآفاق، وهو أول من علم الناس علم أصول الفقه، وصنف كتاب الرسالة.
وكان عمر بن عبد العزيز يذهب إلى العلماء فمنهم من يدخله ومنهم من يرجعه.
فكانوا يذلون أنفسهم بصدق في العلم، وكانوا يقولون: من طلب الحديث أفلس، ولا ينال العلم إلا بالفقر، يعني: أنك تفتقر من كثرة الطلب ومن كثر الإنفاق، فإذا علمت أن منزلة العالم منزلة عظيمة عند الله عز وجل فينبغي عليك أن تنفق كل غال ورخيص من أجل أن تنال هذا العلم.