للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[توبيخ النفس وتذكيرها بيوم الحساب]

ويحك يا نفس! كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب، وتظنين أنك إذا مت تخلصت، وهيهات هيهات! أتحسبين أنك تتركين سدى؟ ألم تكوني نطفة من مني يمنى، ثم كنت علقة فخلق فسوى؟ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟! فإن كان هذا من إضمارك فما أكفرك وأجهلك! أما تتفكرين أنه خلقك من نطفة فقدرك، ثم السبيل يسرك، ثم أماتك فأقبرك، أفتكذبينه في قوله؟! ثم إذا شاء أنشرك فإن لم تكوني مكذبة فمالك لا تأخذين حذرك؟! ولو أن يهودياً أخبرك في ألذ أطعمتك بأنه يضرك في مرضك لصبرت عنه، ولتركته وجاهدت نفسك فيه، أفكان قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات وقول الله تعالى في كتبه المنزلة أقل عندك تأثيراً من قول يهودي يخبرك عن حدس وتخمين وظن مع نقصان عقل وقصور علم؟! والعجب أنه لو أخبرك طفل بأن في ثوبك عقرباً لرميت ثوبك في الحال من غير مطالبة له بدليل ولا برهان، أفكان قول الأنبياء والعلماء والحكماء وكافة الأولياء أقل عندك من قول الصبي من جملة الأغبياء، أم صار حر جهنم وأغلالها وأنكالها وزقومها ومقامعها وصديدها وسمومها وأفاعيها وعقاربها أحقر عندك من عقرب لا تحسين بألمها إلا يوماً أو أقل منه؟! ما هذه أفعال العقلاء، بل لو انكشف للبهائم حالك لضحكوا منك، وسخروا من عقلك، فإن كنت يا نفس قد عرفت جميع ذلك، وآمنت به، فمالك تسوفين العمل والموت لك بالمرصاد ولعله يختطفك من غير مهلة؟ فبماذا أمنت استعجال الأجل؟! وهبك أنك وعدت بالإمهال مائة سنة أفتظنين أن من يطعم الدابة في حضيض العقبة يفلح ويقدر على قطع العقبة بها؟ إن ظننت ذلك فما أعظم جهلك! أرأيت لو سافر رجل ليتفقه في الغربة فأقام فيها سنين متعطلاً بطالاً يعد نفسه بالتفقه في السنة الأخيرة عند رجوعه إلى وطنه هل كنت تضحكين من عقله؟! وظنه أن تفقيه النفس مما يطمع فيه بمدة قريبة، أو حسبانه أن مناصب الفقهاء تنال من غير تفقه، اعتماداً على كرم الله سبحانه وتعالى، ثم هبي أن الجهد في آخر العمر نافع، وأنه موصل إلى الدرجات العلى، فلعل اليوم آخر عمرك فلم لا تشتغلين فيه بذلك؟ فإن أوحي إليك بالإهمال فما المانع من المبادرة؟ وما الباعث لك على التسويف؟ هل له سبب إلا عجزك عن مخالفة شهواتك لما فيها من التعب والمشقة! أفتنتظرين يوماً يأتيك لا تعسر فيه مخالفة الشهوات؟! هذا يوم لم يخلقه الله قط ولا يخلقه.

فلا تكون الجنة قط إلا محفوفة بالمكاره، ولا تكون المكاره قط خفيفة على النفوس، هذا محال وجوده، أما تتأملين منذ كم تعدين نفسك وتقولين غداً غداً؟! فقد جاء الغد وصار يوماً فكيف وجدته؟ أما علمت أن الغد الذي جاء وصار يوماً كان له حكم الأمس؟! لا بل الذي تعجزين عنه اليوم فأنت غداً عنه أعجز وأعجز؛ لأن الشهوة كالشجرة الراسخة التي تعهد العبد بقلعها، فإذا عجز العبد عن قلعها للضعف وأخرها كان كمن عجز عن قلع شجرة وهو شاب قوي فأخرها إلى سنة أخرى، مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة قوة ورسوخاً، ويزيد القالع ضعفاً ووهناً، فما لا يقدر عليه في الشباب لا يقدر عليه قط في المشيب، بل من العناء رياضة الهرم، ومن التعذيب تهذيب الذيب، والقضيب الرطب يقبل الانحناء، فإذا دف وطال عليه الزمان لم يقبل ذلك، فإذا كنت أيتها النفس لا تفهمين هذه الأمور الجلية وتركنين إلى التسويف فما بالك تتدعين الحكمة؟ وأي حماقة تزيد على هذه الحماقة؟! ورحم الله من قال: أنذرتكم سوف فإنها جند من جنود إبليس.

لعلك يا نفس تقولين ما يمنعني عن الاستقامة إلا حرصي على لذة الشهوات، وقلة صبري على الآلام والمشقات، فما أشد غبواتك! وأقبح اعتذارك إن كنت صادقة في ذلك! فاطلبي التنعم بالشهوات الصافية عن الكدورات الدائمة أبد الآباد، ولا مطمع في ذلك إلا في الجنة، فإن كنت ناظرة لشهوتك فالنظر لها في مخالفتها، فرب أكلة تمنع أكلات، وما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء البارد ليصح ويهنأ بشربه طول عمره، وأخبره أنه إن شرب ذلك مرض مرضاً مزمناً، وامتنع عليه شربه طول العمر فما مقتضى العقل في قضاء حق الشهوة؟ أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم طول العمر أم يقضي شهوته في الحال خوفاً من ألم المخالفة ثلاثة أيام حتى يلزمه ألم المخالفة ثلاثمائة يوم وثلاثة آلاف يوم، وجميع عمرك بالإضافة إلى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل الجنة، وعذاب النار أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر، وإن طالت مدته، وليت شعري ألم الصبر عن الشهوات أعظم شدة وأطول مدة أو ألم النار في دركات جهنم؟! فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة كيف يطيق ألم عذاب الله؟ ما أراك تتوانين عن النظر لنفسك إلا لكفر خفي أو لحمق جلي.

أما الكفر الخفي: فضعف إيمانك بيوم الحساب، وقلة معرفتك بعظم قدر الثواب والعقاب.

وأما الحمق الجلي: فاعتمادك على كرم الله وعفوه، من غير التفات إلى مكره واستدراجه، واستغنائه عن عبادتك، مع أنك لا تعتمدين على كرمه في لقمة من الخبز، أو حبة من المال، أو كلمة واحدة تسمعينها من الخلق، بل تتوصلين إلى غرضك في ذلك بجميع الحيل، وبهذا الجهل تستحقين لقب الحماقة، فالأحمق: من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.