أن الاطراد في محل الترداد من دأب الفقيه المتدين، والتقاصص تردد بين التكايسين، فحملوه على التكايس عند اختلاف الأغراض من الوجهين؛ لأن الذمم تتفاوت ولا تتماثل في اليسار والإعسار، فيريد الموسر عند اختلاف الأجلين الاكتفاء بما عليه قضاء عن المعسر، وهذا تكايس بين لا جرم لم يجز عند الاختلاف من الجانبين -الدينين والأجلين- لأن تفاوت الأغراض يحرك دواعي المكايسة، وتشب نار المنافسة لتعذر تماثل الذِّمم.
بخلاف إذا انفرد أحد الاختلافين؛ كاختلاف الدينين، فإن انحلال الذمم لما لم يكن بينهما ترتيب يوجب التوريث للتهمة لم يمتنع الإجزاء؛ فلهذا جوزت المقاصة إذا اتفق الدينين من غير اكتراث بتطابق الأجلين مقدارًا وحلولًا.
فتدبر هذه المعاني؛ فإنها الأصول التي بنيت عليها هذه الفصول.
والجواب عن السؤال الثالث: إذا كان الدين الثابت في الذمة عينًا: فلا يخلو من أن يتفقا في الجنسية، أو يختلفا.
فإن اختلفا؛ مثل أن يكون أحدهما ذهبًا، والآخر فضة.
فإن حلَّا: جازت المقاصة، قولًا واحدًا.
وإن لم يحلَّا، أو حلَّ أحدهما: فالمذهب في جواز المقاصة على قولين:
أحدهما: أنها لا تجوز، وبه قال مالك، وابن القاسم، وهو مشهور المذهب، وكذلك في طعامي القرض إذا اختلفا.
والثاني: أن المقاصة جائزة، وهو قوله في "المدونة" في العرضين إذا حلَّ أحد الأجلين.
وسبب الخلاف: اختلافهم في الذِّمم، هل تبرأ بالمقاصة، أو لا تبرأ؛