والثاني: أنها مردودة؛ لأن مصادفته للحق من غير قصد إلى إيقاعه كنقد الأعمى إذا صادف درهمًا زائفًا، وهذا مشهور المذهب، فعلى هذا القول تكون العدالة من شروط صحة انعقاد الولاية كالإِسلام وأخواته.
وأما السمع والبصر: فقد حكى فيهما أصحابنا الإجماع إلا ما حكاه الماوردي عن مالك في جواز قضاء الأعمى، وهو غير معروف من مذهبه.
والدليل على أن ذلك لا يجوز: أن في تقديمه تضييق على المسلمين في طريق القضاء، وإنفاذ الأحكام، والحاكم مضطر إلى أن ينظر لكل من يطلب عنده مطلبًا من مطالب الحق، والأعمى وإن كان يميز الأصوات فلا يميز إلا من يكرر عليه صوته، وليس كل من يشهد عنده بشهادة من يتكرر إليه يعقل عليه؛ فقد يشهد بها عنده من لم يسمع كلامه قبل هذا.
وأما السمع: فإنه يفتقر إلى أن يسمع دعوى الخصم وأداء الشهادة، وليس كل شاهد يمكنه أن يكتب شهادته فيعرضها عليه، ومنهم من لا يكتب، مع ما في ذلك من تضييق الحال على الناس، وتعذر سبيل الحكم، وذلك يجب أن يمنع منه.
وهل يجوز أن يكون الأمي الذي لا يكتب حاكمًا إن كان عالمًا عدلًا لم أر فيه لأصحابنا نصًا لا لمتقدم ولا لمتأخر، ولأصحاب الشافعي قولان: الجواز، والمنع، والأظهر: الجواز؛ لأن إمام المرسلين، ورسول رب العالمين، وأفضل الحكام كان لا يكتب، ولا يعترض على ذلك بأن يقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالف لغيره من البشر، فإن المخالفة في غير ذلك.
وأما في فصل القضاء فهو فيه مع سائر المكلفين على سواء، والدليل على ذلك الحديث المشهور قد خرَّجه مالك وغيره من طريق أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم لتختصمون إليَّ .. "(١) الحديث.