وذلك بسببِ مجامعةِ القدرِ للشرع؛ إذ الخوضُ فيه بغيرِ علمٍ أوجب ضلالَ عامَّةِ الأممِ، ونهى النبيُّ أصحابَه عن التنازعِ فيه.
فذهب المكذِّبون بالقدَرِ القائلون بأن اللهَ لم يخلُقْ أفعالَ العبادِ، ولم يُرِدْ أن يكونَ إلا ما أمر بأن يكونَ، وغُلاتُهم المكذِّبون بتقدُّمِ عِلمِ اللهِ وكتابِه ما سيكونُ من أفعالِ العبادِ من المعتزلةِ وغيرِهم: إلى أن الظُّلمَ منه هو نظيرُ الظُّلم من الآدميين بعضِهم لبعضٍ، وشبَّهوه ومثَّلوه في الأفعالِ بأفعالِ العبادِ، وضربوا للهِ الأمثالَ، بل أوجبوا عليه وحرَّموا ما رأوا أنه يجبُ على العبادِ ويحرُمُ بقياسِه على العبادِ.
وقالوا: إذا أمر العبدَ ولم يُعِنْه بجميعِ ما يقدرُ عليه من وجوهِ الإعانةِ؛ كان ظالمًا، والْتزموا أنه لا يقدِرُ أن يَهْدِيَ ضالًّا، كما قالوا: إنه لا يقدرُ أن يُضِلَّ مهتديًا، وقالوا: إذا أمر اثنين بأمرٍ واحدٍ، وخصَّ أحدَهما بإعانتِه على فعلِ المأمورِ؛ كان ظالمًا، إلى مثلِ ذلك من الأمورِ التي هي من بابِ الفضلِ والإحسانِ، جعلوا تركَه لها ظلمًا.
وكذلك ظنُّوا أن التعذيبَ لمن كان فعلُه مقدَّرًا؛ ظلمٌ له، ولم يفرِّقوا بينَ التعذيبِ لمن قام به سببُ استحقاقِ ذلك، ومن لم يقُمْ، وإن كان ذلك الاستحقاقُ خلقَه لحكمةٍ أخرى عامَّةٍ أو خاصةٍ.
وهذا الموضعُ زلَّتْ فيه أقدامٌ، وضلَّتْ فيه أفهامٌ؛ فعارضَ هؤلاءِ آخرونَ من أهلِ الكلامِ المثبتينَ للقدَرِ، فقالوا: ليس للظُّلمِ منه حقيقةٌ يمكنُ وجودُها، بل هو من الأمورِ الممتنعةِ لذاتِها، فلا يجوزُ أن يكون مقدورًا، ولا أن يقالَ: إنه تاركٌ له باختيارِه، وإنما هو من بابِ الجمعِ