للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

القلوب عن قصد جهة من الجهات، بل يجدون قلوبهم مضطرة إلى أن تقصد جهة علوهم دون غيرها من الجهات.

الطريق الرابع: أن يقال: أنه قد ثبت بصريح المعقول أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص، فإن اللَّه يوصف بالكمال منهما دون النقص، ولما تقابل المباينة للعالم والمداخلة له وصف بالمباينة دون المداخلة، وإذا كان مع المباينة لا يخلو إما أن يكون عاليًا على العالم أو مسامتًا له، وجب أن يوصف بالعلو دون المسامتة، فضلًا عن السفول، والمنازع يُسلِّم أنه موصوف بعلو المكانة وعلو القهر، وعلو المكانة معناه: أنه أكمل من العالم، وعلو القهر مضمونه: أنه قادر على العالم، فإذا كان مباينًا للعالم، كان من تمام علوه أن يكون فوق العالم، لا محاذيًا له، ولا سافلًا عنه، ولمَّا كان العلو صفة كمال، كان ذلك من لوازم ذاته، فلا يكون مع وجود غيره إلا عاليًا عليه، لا يكون قط غير عال عليه.

الطريق الخامس: أن يقال: إذا كان مباينًا للعالم: فإما أن يُقَدَّر محيطًا به، أو لا يُقَدَّر محيطًا به، فإن قُدِّر محيطًا به كان عاليًا عليه على المحيط على المحاط به، وإن لم يقدر محيطًا به: فإن كان العالم كُرِّيًا، وليس لبعض جهاته اختصاص بالعلو، فإذا كان مباينًا له لزم أن يكون عاليًا، كيفما كان الأمر.

وإن قدر أن العالم ليس بكُرِّي، أو هو كُرِّي ولكن بعض جهاته لها اختصاص بالعلو، مثل أن نقول: إن اللَّه وضع الأرض وبسطها للأنام، فالجهة التي تلي رؤوس الناس هي جهة العلو من العالم دون الأخرى، ومن المعلوم أن جهة العلو أحق بالاختصاص؛ لأن الجهة العالية أشرف بالذات من السافلة، ولهذا اتفق العلماء على أن جهة السماوات أشرف من جهة الأرض، وجهة الرأس أشرف من جهة الرِّجل، فوجب اختصاصه بخير النوعين وأفضلهما، إذ اختصاصه بالناقص المرجوح ممتنع" (١).

الطريق السادس: قال ابن القيم: "كل من أقر بوجوب رب العالم مدبر له، لزمه الإقرار بمباينته لخلقه وعلوه عليهم، وكل من أنكر مباينته وعلوه لزمه إنكاره وتعطله، فإن قيل: هو يتعين بكونه لا داخلًا فيه ولا خارجًا عنه، قيل: هذا واللَّه حقيقة قولكم وهو عين المحال، وهو تصريح منكم بأنه لا ذات له ولا ماهية تخصه، فإنه لو كان له ماهية يختص بها لكان تعينها لماهيته وذاته المخصوصة، فلزم قطعا من إثبات ذاته تعين تلك الذات؛ ومن تعينها مباينتها للمخلوقات، ومن المباينة العلو عليها لما تقدم من تقريره وصح مقتضى


(١) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية باختصار (٧/ ٣ - ٦).