للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال ابن القيم: "هذه الآية وهي على جواز الرؤية أدل منها على امتناعها؛ فان اللَّه سبحانه إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال ولا يمدح به، وإنما يمدح الرب Object بالعدم إذا تضمن أمرًا وجوديًا: كتمدحه بنفي السنة والنوم المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيته وإلهيئة وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال الصمدية وغناه، ونفي الشفاعة عنده بدون إذنه المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتظمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، وفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته، ولهذا لم يتمدح بعدم محض لا يتضمن أمرًا ثبوتيًا فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه، فلو كان المراد بقوله ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] أنه لا يُرى بحال لم يكن في ذلك مدح ولا كمال؛ لمشاركة المعدوم له في ذلك فان العدم الصرف لا يُرى ولا تُدركه الأبصار، والرب Object يتعالى إن يمدح بما يشاركه فيه العدم المحض، فإذا المعنى أنه يُرى ولا يُدرك ولا يُحاط به كما كان المعنى في قوله: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ﴾ [يونس: ٦١] أنه يعلم كل شيء، وفي قوله: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: ٣٨] أنه كامل القدرة، وفي قوله: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: ٤٩] أنه كامل العدل، وفي قوله: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] أنه كامل القيومية، فقوله: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] يدل على غاية عظمته وأنه أكبر من كل شيء وأنه لعظمته لا يدرك بحيث يحاط به فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية" (١).

[الرد على حجتهم الثانية]

الرد على الوجه الأول: أن الآية الكريمة حجة عليهم وأنها تدل على إمكان رؤية اللَّه تعالى، وليس فيها ما يزعمونه من استحالة رؤية اللَّه تعالى وامتناعها، وقولهم ذلك باطل لغةً وشرعًا، بدليل ما يلي:

أن قولهم: "إن لن موضوعة للتأبيد" باطل، ومخالف للغة العرب وما دلت عليه من المعاني. قال أبو القاسم السهيلي: "إن العرب إنما تنفي بـ "لن" ما كان ممكنًا عند الخطاب مظنونًا أنه سيكون، فتقول له: "لن


(١) انظر: حادي الأرواح لابن القيم (٢٩٣ - ٢٩٤).