للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الوجه الخامس: أن قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] الآية، وإن عمت في الأشخاص باستغراق اللام، فإنها لا تعم في الأزمان؛ لأنها سالبة مطلقة لا دائمة، ونحن نقول بموجبه حيث لا يرى في الدنيا (١)، وبهذا علمنا أن الوقت الذي قال إنه: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] فيه غير الوقت الذي أخبرنا أنها تنظر إليه فيه (٢).

الوجه السادس: ويقال لهم: إذا كان قول اللَّه سبحانه: في: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] في العموم كقوله: ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام: ١٠٣]؛ لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر فخبرونا أليس الأبصار والعيون لا تدركه رؤيةً ولا لمسًا ولا ذوقًا ولا على وجه من الوجوه؟ فإن قالوا: نعم، فيقال لهم: أخبرونا عن قوله تعالى: ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ أتزعمون أنه يدركها لمسًا وذوقًا بأن يلمسها؟ فمن قولهم: لا. فيقال لهم: فقد انتقض قولكم: إن قوله: ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ في العموم كقوله: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ (٣).

الوجه السابع: أما قولهم: "إن اللَّه تمدح بأن لا يرى"، فقول باطل؛ لأن العدم المحض الذي لا يتضمن إثباتًا لا مدح فيه ولا كمال.

قال ابن تيمية: "قوله: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣]، إنما نفي الإدراك الذي هو الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء. ولم ينف مجرد الرؤية، لأن المعدوم لا يُرى، وليس في كونه لا يُرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحًا، وإنما المدح في كونه لا يُحاط به وإن رُئي، كما أنه لا يُحاط به وإن عُلم، فكما أنه إذا عُلم لا يحاط به علمًا، فكذلك إذا رُئي لا يحاط به رؤية.

فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحة وصفة كان، وكان ذلك دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها (٤).

فتبين بهذا أن قول المعطلة النفاة دعو مجردة عن الدليل، فثبوت المدح في سياق الكلام ليس لهم فيه حجة على امتناع الرؤية، بل الحجة عليهم في إثبات صحة الرؤية؛ لأنه يمتنع حصول التمدح بنفي الرؤية، لمشاركة المعدوم في ذلك، وإنما يحصل التمدح بحيث تصح رؤيته، ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته.


(١) انظر: "شرح المواقف" (٨/ ١٤٠).
(٢) انظر: اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع لأبي الحسن الأشعري (ص ٦٥).
(٣) انظر: الإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري (ص ٥٩ - ٦٠).
(٤) انظر: التدمرية لابن تيمية (ص ٥٩).