للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

النظر مقيد بالقيامة، وأن: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ أي: في دار الدنيا. ولو سلمنا من أن الإدراك: الرؤية، وأن الآية عامة: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ فعمومها تخصصه آيات أخر بيوم القيامة (٢): ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)﴾ وقوله: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون (١٥)[المطففين] أي: بخلاف المؤمنين فليسوا بمحجوبين عن ربهم، وقد تقرر في الأصول أن المفهوم يخصص العام، سواء كان مفهوم موافقة، أو مفهوم مخالفة (١).

الوجه الثالث: قد يقال أيضًا: إن المراد نفي الرؤية وقد عدم إذن اللَّه تعالى للأبصار بالإدراك، والدليل على صحة إرادة هذا القيد أن إرادة الإبصار فعل من أفعال العبيد وكسب من كسبهم، وقد ثبت بغير ما دليل أن العباد لا يقدرون على شيء من المقدورات إِلا بإذن اللَّه تعالى ومشيئته وتمكينه، فلا تدركه الأبصار إِلا بإذنه وهو المطلوب. ويؤيد هذا البيان ويشيد أركانه أنَّ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] وقع بعد قوله سبحانه: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الأنعام: ١٠٢] ووجه التأييد: أن اللَّه تعالى أخبر بأنه على كل شيء وكيل أي متولٍّ لأموره، ومعلومٌ أن الأبصار من الأشياء وأن إدراكها من أمورها، فهو متوليها ومتصرف فيها على حسب مشيئته، فيفيض عليها الإدراك ويأذن لها إذا شاء كيف شاء وعلى الحد الذي شاء، ويقبض عنها الإدراك قبضًا كُليًا أو جُزئيًا في أي وقت شاء كيف شاء، ولا يخفى على هذا أنه غاية التمدح بالعزة والقهر والغلبة؛ فإن من هو على كل شيء وكيل إذا لم تدركه الأبصار إِلا بإذنه مع كونه يدرك الأبصار -ولا تخفى عليه خافية- كان ذلك غاية في عزته وقهره وكونه غالبًا على أمره (٢).

الوجه الرابع: أنَّ: "تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ" موجبة كلية؛ لأن موضعها جمع محلي كلية باللام الاستغراقية، وقد دخل عليها النفي فرفعها ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية، وبالجملة فيحتمل قوله: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] إسناد النفي إلى الكل، بأن يلاحظ أو لا دخول النفي، ثم ورود العموم عليه فيكون سالبة جزئية، ومع احتمال المعنى الثاني فلم يبق فيه حجة لكم علينا؛ لأن أبصار الكفار لا تدركه إجماعًا، هذا ما نقوله لو ثبت أن اللام في الجمع للعموم والاستغراق، وإلا عكسنا القضية وقلنا: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] سالبة مهملة في قوة الجزئية فالمعنى: لا تدركه بعض الأبصار، وتخصيص البعض بالنفي يدل بالمفهوم على الإثبات للبعض، فالآية حجة لنا لا علينا (٣).


(١) انظر: العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (٣/ ٥٣ - ٥٤) بتصرف. .
(٢) انظر: روح المعاني للألوسي (٤/ ٢٣٢).
(٣) انظر: شرح مواقف الإيجي للجرجاني (٨/ ١٥٦ - ١٥٧)، "اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع" لأبي الحسن الأشعري (٦٥).