للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

القمر مضيئة بأنفسها، فأما القمر فمخالف لها. واستدلوا على ذلك بما يعرض له من إهلالِهِ وبُدوِرِهِ، وقالوا: إنه وحده يقبل الضوء من الشمس ويخسف موضعه منها، يكون قبوله للضوء إما أعلاه وإما أسفله وإما بعض الأعلى وبعض الأسفل، وبحسب موضعنا منه بتوسطٍ أو غيره تكون أبصارنا مدركة ضوءه إما كله أو بعضهم. وعقد بابًا في إبطال قول من قال إن الكواكب تسعى بالشمس.

قلت: لِمَا ذَكَر من أن ضوء القمر من قبل الشمس شاهدٌ ذكره الفراء في المعاني في قول اللَّه: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (٢)[الشمس] قال: "ويقال: إذا تليها فأخذ من ضوئها، وأنت قائل في الكلام: اتبعت قول أبي حنيفة، وأخذت بقول أبي حنيفة، والاتباع والتلوُّ سواء" (١).

قال ابن الخطيب (٢) في مقدمته في المنطق التي سمَّاها الآيات البيِّنات: "ومثال الحدسيَّات وهو أنا إذا شاهدنا اختلاف شكل القمر قربه وبُعده من الشمس يحصل لنا العلم بأن ضوءه مستفاد من الشمس، وهذا الكلام باطل؛ فإن علمنا بهذه المقدمة إن كان بدهية فهو من البدهيات فلا وجه لجعله قسمًا آخر في البدهيات، وأيضًا فإنا قد بينا في كتب الحكمة أن هذه المقدمة ليست بيقينية وإن كان مستفادًا من البرهان فلا يكون هو من مفاد البرهان" (٣).

٥٢ - فصل (٤).

ذكر شيخنا أبو العباس في حكمة اللَّه في خلق الإنسان قال: "وأدنى ذلك أن العين والفم والأذن فيها مياه ورطوبة، فماء العين مالحٌ، وما الفم عذبٌ، وماء الأذن مُرٌّ، فإنّ العين شحمة، والملوحة تحفظها أن تذوب، وهذه أيضًا حكمة تمليح ماء البحر؛ فإن له سببًا وحكمةً؛ فسببه سُبوخة أرضه وملوحتها؛ فهي توجب ملوحة أرضه، وحكمتها أنَّها تمنع نتن الماء بها يموت فيه من الحيتان العظيمة؛ فإنّه لولا ملوحة مائه لأنتن، ولو أنتن لفسد الهواء حتى يموت


(١) انظر: معاني القرآن للفراء (٣/ ٢٦٦).
(٢) هو المتكلم الأشعري المشهور فخر الدين الرازي.
(٣) انظر: شرح الآيات البينات لابن أبي الحديد (ص ٢٩٠) دراسة وتحقيق: مختار جيلي. الناشر: دار صادر. الطبعة الأولى ١٩٩٦ م.
(٤) هذا الفصل فيه بيان شيء من الحكمة من خلق الإنسان، وله تعلق بالباب السابق وهو باب خلق النفس والروح.