للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[١٥ - فصل]

قال شيخنا الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية ﵀:

النَّاسُ في الْعِشْقِ عَلَى قَوْلَيْنِ: قِيلَ إنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ، وَهَذَا هُوَ المشْهُور. وَقِيلَ: مِنْ بَابِ التَّصَوُّرَاتِ، وَأَنَّه فَسَادٌ في التَّخْيِيلِ، حَيْثُ يَتَصوَّرُ المعْشُوقُ عَلَى خلاف مَا هُوَ بِهِ، قَالَ هَؤُلَاءِ: وَلهَذَا لَا يُوصفُ اللهُ بِالْعِشْقِ وَلَا أَنَّهُ يَعْشَقُ، لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يُحْمَدُ مَن يَتَخَيَّلُ فِيهِ خَيَالًا فَاسدًا.

وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُوصَفُ بِالْعِشْقِ فَإِنَّهُ المحَبَّةُ التَّامَّهُ، وَاَللَّهُ يُحِبُّ وَيُحِبُّ.

٥٩٦ - وَرُوِيَ فِي أَثَرٍ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ (١) أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ يَعْشَقنِي وَأَعْشَقُهُ" (٢)، وَهَذَا قَوْلُ الصوفِيَّة.

وَالْجُمْهُورُ لَا يُطْلِقُونَ هَذَا اللَفْظَ فِي حَقِّ الله؛ لِأَنَّ الْعِشْقَ هُوَ المحَبَّةُ الْمْفرِطَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الحدِّ الَّذِي يَنْبَغِي، وَاللهُ تَعَالَى مَحَبَّتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَلَيْسَتْ تَنْتَهِي إلَى حَدٍّ لَا تَنْبَغِي مُجَاوَزَتُهُ.

قَالَ هَؤُلَاءِ: وَالْعِشْق مَذْمُومٌ مُطْلَقًا لَا يُمْدَحُ لَا فِي مَحَبَّةِ الخالِق وَلَا الْمَخْلُوقِ، لِأَنَّهُ المحَبَّةُ الْمُفْرِطَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الحدِّ الْمَحْمُودِ، وَأَيضًا فَإِن لَفْظَ "الْعِشْقِ" إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ في مَحَبَّةِ الإِنْسَانِ لِامْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ، لَا يسْتَعْمَلُ في مَحَبَّةٍ كَمَحَبَّةِ الْأَهْلِ وَالمالِ وَالْوَطَنِ وَالْجَاهِ وَمحَبَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهوَ مَقْرُون كَثِيرًا بِالفِعْلِ الْمُحَرَّمِ: إمَّا بِمَحَبَّةِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ صبِيٍّ يَقْتَرِنُ بِهِ النَّظَرُ الْمُحَرَّمِ وَاللَّمْسُ الْمُحَرَّمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ (٣).


(١) عبد الواحد بن زيد، أبو عبيدة البصري، شيغ العُبَّاد، حديثه من قبيل الواهي، قال البخاري: تركوه، وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه العبادة حتى غفل عن الإتقان، فكثرت المناكير في حديثه، قال بصحة الاكتساب، ونُسب إلى شيء من القدر، ونصب نفسه للكلام في مذاهب النُّساك، داخلًا في معاني المحبة والخصوص، مات بعد الخمسين ومائة. السير (٧/ ١٧٨ رقم الترجمة ٥٩).
(٢) لم أقف على من ذكره غير ابن تيمية ﵀.
(٣) ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (١٠/ ١٣٠ - ١٣١).