للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يقضي بأن المقادير في تجويز العقل متساوية، فما من مقدار وشكل يُقدَّرُ في العقل إلا ويجوز أن يكون مخصوصًا بغيره، فاختصاصه بها اختص به من مقدار أو شكل أو غيره يستدعي مخصِّصًا ولو استدعي مخصصًا لكان الباري حَادثًا.

ولكن هذا المسلك مما لا يقوى وذلك أنه وإن سلم أن ما يفرض من المقادير والجهات وغيرها ممكنة في أنفسها وأن ما وقع منها لا بد له من مخصص، لكن انما يلزم أن يكون الباري حادثًا أن لو كان المخصص خارجًا عن ذاته ونفسه، ولعل صاحب هذه المقالة لا يقول به وعند ذلك فلا يلزم أن يكون الباري حادثًا ولا محتاجًا إلى غيره أصلًا" (١).

وقال الآمدي أيضًا في أبكار الأفكار: "وهذا المسلك ضعيف أيضًا؛ إذ لقائل أن يقول: المقدمة الأولى وإن كانت مسلمة غير أن المقدمة الثانية وهي: أن كل مفتقر إلى المخصص محدَث" ممنوعة، وما ذُكر في تقريرها باطل. . . وبتقدير حدوث ما أُشير إليه من الصفات فلا يلزم أن تكون الأجسام والجواهر حادثة لجواز أن تكون هذه الصفات متعاقبة عليها إلى غير النهاية" (٢).

الرد عليهم في استخدامهم ألفاظًا مجملة:

هؤلاء المعطلة النفاة استخدموا ألفاظًا مجملة لم يرد في الكتاب ولا في السنة نفيها ولا إثباتها، جعلوها عمدةً وحجة فنفوا بها الحق وأثبتوا الباطل، مثل لفظ: "التحيز" و"الجهة" و"التركيب" و"الجسمية" و"الأعراض" ونحوها، وقع بسبب ذلك كثير من الانحراف والتفرق في الأمة، وضل بسببه كثير من الناس.

قال ابن تيمية: "وأصل ذلك: أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة وهي ألفاظ مجملة مثل: "متحيز" و"حدود" و"جسم" و"مركب" ونحو ذلك ونفوا مدلولها وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلمة ومدلولا عليها بنوع قياس وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء فوجب طرد الدليل بالحدوث والإمكان لكل ما شمله هذا الدليل؛ إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح فرأوا ذلك يعكر عليهم من جهة النصوص ومن جهة العقل من ناحية أخرى فصاروا أحزابا. تارة يغلبون القياس الأول ويدفعون ما عارضه وهم المعتزلة وتارة يغلبون القياس الثاني ويدفعون الأول كهشام بن الحكم الرافضي فإنه قد قيل: أول ما تكلم في الجسم نفيًا


(١) انظر: غاية المرام في علم الكلام للآمدي (ص ١٨١) باختصار.
(٢) انظر: أبكار الأفكار في أصول الدين للآمدي (٣/ ٣٢٠ - ٣٢١).