للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرد على الدليل العقلي الرابع]

أن قولهم ذلك مغالطة للواقع، فالمرآة في جهة الناظر إليها، وهو إنما ينظر إلى صورته فيها. فإن الذي يُبصَرُ هو خيال ذاته فقط، والخيال منه هو في جهة إذا كان الخيال في المرآة، والمرآة في جهة (١).

قال ابن القيم: "قال العقلاء هذا تلبيس فإنه إنما يرى خيال صورته وهو عرض منطبع في الجسم الصقيل وهو في جهة منه ولا يرى حقيقة صورته القائمة به" (٢).

[الرد على الدليل العقلي الخامس]

قولكم: أن رؤية غير الأجسام ممكنة، قول باطل مخالف للعقل الصريح والواقع، ومكابرة للمعقول والمحسوس.

فأما الوجه الأول في استدلالكم: فالمغالطة في هذا القول بيِّنة؛ فإن المرئي منه ما هو مرئي بذاته ومنه ما هو مرئي من قبل المرئي بذاته، وهذه هي حال اللون والجسم، فإن اللون مرئي بذاته، والجسم مرئي من قبل اللون، ولذلك ما لم يكن له لون لم يُبصَر، ولو كان الشيء إنما يُرى من حيث هو موجود فقط لوجب أن تُبصر الأصواتُ وسائرُ المحسوسات الخمس، فكان يكون البصر والسمع وسائر الحواس الخمس حاسة واحدة، وهذا كله خلاف ما يُعقل، وقد اضطر المتكلمون لمكان هذه المسألة وما أشبهها أن يُسلِّموا أن الألوان ممكنة أن تسمع، والأصوات ممكنة أن تُرى، وهذا كله خروج عن الطبع وعما يمكن أن يعقله الإنسان، فإنه من الظاهر أن حاسة البصر غير حاسة السمع، وأن محسوس هذه غير محسوس تلك، وأن آلة هذه غير آلة تلك، وأنه ليس يمكن أن ينقلب البصر سمعًا، كما ليس يمكن أن يعود اللون صوتًا، وعلى هذا فتكون الأشياء كلها شيئًا واحدًا حتى المتضادات، وهذا شيء فيها أحسب يُسلِّمه المتكلمون من أهل ملتنا، أو يلزمهم تسليمه -يعني هؤلاء الأشعرية- وهو رأي سوفسطائي لأقوام قدماء مشهورين بالسفسطة.

وأما الوجه الثاني في استدلالكم: ففي غاية الفساد، ومن أبين ما يظهر به فساد هذا القول أنه لو كان البصر إنما يدرك الأشياء لوجودها لما أمكنه أن يفرق بين الأبيض والأسود؛ لأن الأشياء لا تفترق بالشيء الذي تشترك فيه، ولكان بالجملة لا يمكن في الحواس: لا في البصر أن يُدرِكَ فصول الألوان، ولا في السمع أن يُدرِكَ فصول الأصوات، ولا في الطعم أن يُدرِكَ فصول المطعومات، وللزم أن تكون مدارك المحسوسات بالحس واحدًا، فلا يكون فرق بين مدرك السمع وبين مدرك البصر، وهذا كله في غاية الخروج عما يعقله الإنسان،


(١) انظر: مناهج الأدلة لابن رشد (ص ١٨٧) وبيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (٢/ ٤٤١) والدرء له أيضًا (٦/ ٢٣٠).
(٢) انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم (٤/ ١٣٣٣).