للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المطلب الأول: الأدلة الشرعية التي استدل بها المعطلة لنفي رؤية اللَّه تعالى في الدار الآخرة.

استدل المعطلة على مذهبهم بعدة أدلة من القرآن الكريم وهي:

١ - قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)[الأنعام].

وجه الدلالة: أن الإدراك إذا قرن بالبصر لا يحتمل إلا الرؤية، وثبت أنه تعالى نفي عن نفسه إدراك البصر، ونجد في ذلك تمدُّحًا راجعًا إلى ذاته، وما كان من نفيه تمدُّحًا راجعًا إلى ذاته كان إثباته نقصًا، والنقائص غير جائزة على اللَّه تعالى في حال من الأحوال (١).

وقالوا أيضًا: أنه نفى أن يدرك بالأبصار، وقد علمنا أن الإدراك إذا قرن بالبصر أفاد ما تفيده رؤية البصر، وإذا كان إذا أطلق فقد يستعمل بمعنى اللحوق، فيقال: أدرك الغلام إذا بلغ، وأدركت الثمرة إذا نضجت، وأدرك فلان فلانة إذا لحقه، وقال سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ﴾ [يونس: ٩٠] يعني: لحقه الغرق، وقال سبحانه: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١)[الشعراء: ٦١] يعني: لملحوقون، وقد يقال عند الإطلاق: أدركت الحرارة والبرودة وأدركت الصوت، وكل ذلك إنما يصح إذا لم يقرن بالبصر، ومتي قرن به زال الاحتمال عنه، فاختص بفائدة واحدة وهي الرؤية بالبصر، فإذا صح ذلك فيجب أن يكون: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ في باب الدلالة على أنه لا يُرى، بمنزلة قوله لو قال: (لا تراه الأبصار) فثبت أنه نفى عن نفسه إدراك البصر فيتناول جميع الأبصار في جميع الأوقات، يبين ما ذكرناه: أنه لا فرق بين قولهم: أدركت ببصري هذا الشخص، وبين قولهم: رأيت ببصري هذا الشخص، أو أبصرت ببصري هذا الشخص، حتى لو قال: أدركت ببصري وما رأيت، أو رأيت وما أدركت لعد متناقضة، ومن علامات اتفاق اللفظين في الفائدة أن يثبتا في الاستعمال معًا ويزولا معًا، حتى لو أثبت بأحدهما ونفى بالآخر لتناقض الكلام (٢).

قالوا: ومما يؤيد العموم أن عائشة لما أنكرت قول ابن عباس في أن محمدًا رأى ربه ليلة المعراج تمسكت في نصرة ما ذهبت إليه بهذه الآية، ولو لم تكن هذه الآية مفيدة للعموم بالنسبة إلى كل الأشخاص وكل الأحوال لما تم ذلك الاستدلال، ولا شك أنها من أكثر الناس علمًا بلغة العرب، فثبت أن هذه الآية دالة على النفي بالنسبة إلى كل الأشخاص وذلك يفيد المطلوب.


(١) انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي (ص ٢٣٣).
(٢) انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار المعتزلي (٤/ ١٤٤) وشرح الأصول الخمسة له أيضًا (ص ٢٣٤).